محكمة الحصانات وعقبات القانون


Peter_Hachem

بعد هول الفاجعة الّتي حلّت في ٤ آب ٢٠٢٠ على اللّبنانيّين عموماً وأهالي الضّحايا والشّهداء خصوصاً، استبشر هؤلاء خيراً بتعيين محقّقاً عدليّاً جديداً وهو القاضي طارق البيطار خلفاً للقاضي فادي صوّان الّذي “نُحِّيَ” عن الملفّ . وبعد قسطٍ من الوقت أخذه القاضي بيطار للتّعمّق في درس ملفّه خرج بسلسلة ادّعاءاتٍ طالت رئيس حكومة تصريف الأعمال وعدد من النّوّاب الوزراء سابقاً وأمنيّين وقضاة، ناسباً إليهم جرائم جنائيّة كالقتل القصديّ جرائم جنحيّة كالإهمال والتّقصير

بقدر ما كانت هذه الخطوة من المحقّق العدليّ نوع من “فشّة خلق” للشّعب المجروح، كانت شرارة انطلاق حملة تصويب على القاضي بيطار أبطالها المدّعى عليهم وتحديداً النّوّاب الوزراء سابقاً ونواتها بدع وهرطقات قانونيّة معروفة الغايات، فخرج عندئذٍ أرنب الحصانات وهمّ الجميع للتّذرّع بها. لقد نصّ الدّستور اللبنانيّ صراحةً في المادّة ٣٩ منه على أن “لا تجوز إقامة دعوى جزائيّة على أيّ عضو من أعضاء المجلس بسبب الآراء والأفكار الّتي يبديها مدّة نيابته” كما وحرّمت المادّة ٤٠ من الدّستور والمادّة ٩٠ من النّظام الدّاخليّ للمجلس النّيابيّ اتّخاذ أيّ إجراء جزائيّ أثناء دورة الانعقاد بحقّ النّائب في حال اقترافه جرماً جزائيّاً إلّا بإذن من المجلس ما عدا حالة الجرم المشهود. وقد يثار التّساؤل هنا حول مدى صحّة التّذرّع بهذه الحصانة في ضوء الادّعاء على نوّاب حاليّين بسبب أعمالهم كوزراء سابقين، فقد ذهب البعض إلى اعتبار ألّا حصانة في هذه الحالة لكن المادّة ٤٠ من الدّستور كما المادّة ٩٠ من النّظام الدّاخليّ للمجلس النّيابيّ تنقضان هذا الرّأي بحيث أنّهما تمنعان اتّخاذ أيّ إجراء جزائيّ بحقّ النّائب المدّعى عليه جزائيّاً ما معناه أنّه لو قام القاضي بيطار مثلاً بتوقيف أيّ من المدّعى عليهم النّوّاب لكان هذا التّوقيف باطلاً لعلّة مخالفة الدّستور، لذلك تكون الآليّة المتوجّب تطبيقها في مثل هذه الحالة هي أن يصار إلى تقديم طلب الإذن بالملاحقة من قبل “وزير العدل مرفقاً بمذكّرة من النّائب العامّ لدى محكمة التّمييز تشتمل على نوع الجرم وزمان ومكان ارتكابه معلى خلاصة عن الأدلّة الّتي تستلزم اتّخاذ إجراءات عاجلة” عملاً بالمادّة ٩١ من النّظام الدّاخليّ ويقدّم طلب رفع الحصانة إلى رئيس المجلس الّذي يدعو هيئة مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل إلى جلسة مشتركة لدرس طلب وعلى هذه الهيئة تقديم تقرير بشأنه في مهلة أقصاها أسبوعان” وفقاً للمادّة ٩٢، وهذا ما لجأ إليه المحقّق العدليّ لكن لم يصار إلى احترام مهلة الأسبوعان ولم تحدّد جلسة للهيئة العامّة حتّى

بالموازاة، برزت مؤخّراً عريضة نيابيّة يسوّق لها عدد من النّوّاب بهدف إحالة الادّعاء بحقّ رئيس حكومة تصريف الأعمال والوزراء السّابقين إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرّؤساء والوزراء باعتباره صاحب الصّلاحيّة وذلك سنداً لأحكام المادّة ٧٠ من الدّستور التّي تنصّ على أنّه “لمجلس النّوّاب أن يتّهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتّبة عليهم…” وممّا لا شكّ فيه أنّ المجلس الأعلى يشكّل لبّ الحصانتين الرّئاسيّة والوزاريّة إضافةً إلى تكوينه الهجين الؤلّف من ثمانية قضاة وسبعة نوّاب كما حدّدت المادّة ٨٠ من الدّستور ضارباً بعرض الحائط مبدأ فصل السّلطات في الدّول الدّيموقراطيّة. ولم يسبق اللّجوء إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرّؤساء والوزراء سوى مرّة واحدة وذلك لملاحقة الوزير السّابق شاهيه برصوميان قي ما عرف بملفّ “الرّواسب النّفطيّة”. ولعلّ أوّل ما يتبادر إلى ذهن اللّبنانيّين لحظة سماعهم بإحالة الملفّ إلى المجلس الأعلى هو تمييع تلك الملفّ ودفنه في الأدراج بسبب الإجراءات المعقّدة الّتي تتطلّبها الملاحقة: بالنّسبة لرئيس الجمهوريّة وبحسب الفقرة الثّانية من المادّة ٦٠ من الدّستور لا يمكن اتّهامه إلّا من قبل مجلس النّوّاب بموجب قرار يصدره بغالبيّة ثلثيّ مجموع أعضائه وذلك في التّبعة في ما يختصّ بالجرائم العاديّة ولعلّتيّ خرق الدّستور والخيانة العظمى وكذلك أتت المادّة ٧٠ من الدّستور لتحدّد أيضاً غالبيّة الثّلثين لإصدار قرار الاتّهام بحقّ رئيس مجلس الوزراء والوزراء لارتكابهم الخيانة العظمى وإخلالهم بواجباتهم الوظيفيّة. إضافةً إلى ذلك، إنّ ما يزيد من تعقيد تلك الإجراءات هو طريقة الاتّهام حيث نصّت المادّة ١٩ من قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى على أنّه “يقدّم طلب الاتّهام بموجب عريضة يوقّع عليها خمس أعضاء المجلس النّيابيّ على الأقلّ” وهذا ما يبيّن نيّة المشترع بعدم استسهال الاتّهام أمام هذا المجلس الأعلى عبر وضع أنصبة محدّدة لإتمام أيّة خطوة في المسار الإجرائيّ للمحاكمة. وبعد يحال الاتّهام إلى لجنة نيابيّة خاصّة تدعى لجنة التّحقيق كما أشارت المادّتين ٢٢ و٢٣ من قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرّؤساء والوزراء وقد أولت المادّة ٢٨ من القانون عينه صلاحيّات قاضي التّحقيق لهذه اللّجنة

وبالعودة قليلاً إلى المادّتين ٦٠ و٧٠ من الدّستور اللّتين ذكرتا الجرائم الّتي تستوجب الملاحقة أمام المجلس الأعلى، وحصرت هذه الجرائم بخرق الدّستور والخيانة العظمى هذا في ما خصّ رئيس الجمهوريّة، والخيانة العظمى والإخلال بالموجبات الوظيفيّة في ما خصّ رئيس مجلس الوزراء والوزراء. وهنا نفنّد بإيجاز الجرائم الّتي أسلفنا ذكرها: لجهة جريمة الخيانة، لقد تناولها قانون العقوبات اللّبنانيّ في المادّة ٢٧٣ وما يليها وأعطاها وصفاً جرميّاً جنائيّاً بحيث تكون عقوبة هذه الجريمة الاعتقال المؤقّت أو الأشغال الشّاقّة المؤقّتة أو المؤبّدة وصولاً إلى عقوبة الإعدام، ونلاحظ هنا أنّ هذه الجريمة تتّسم بطابع سياسيّ وخصوصاً حال ارتكابها من قبل من يتولّى مهام سياسيّة كرئيس الجمهوريّة أو رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء فهي جريمة تقع على أمن الدّولة الخارجيّ

أمّا في ما خصّ جريمة الإخلال بالواجبات الوظيفيّة الّتي قد يرتكبها رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء فإنّ هؤلاء مولجون القيام بمهام إداريّة بموازاة مهامهم السّياسيّة، وفي ضوء غياب أيّ تحديد للموجبات الوظيفيّة في الدّستور لا بدّ من الاستناد إلى قانون العقوبات وتحديداً المادّة ٣٥١ وما يليها معطيةً لجريمة الإخلال بالواجبات الوظيفيّة الوصفين الجنحيّ أو الجنائيّ، وهذه الجريمة تتّصف بالطّابع الإداريّ المحض في حال ارتكبها الموظّف العموميّ لكنّها أيضاً تحمل نفحةً سياسيّةً لدى ارتكابها من قبل رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء

وبالنّسبة لجريمة خرق الدّستور وهي جريمة محض سياسيّة، لا حاجة إذاً للغوص في تفاصيلها كونها واضحة المعالم ومرسومة الحدود في الصّلاحيّات المعطاة لرئيس الجمهوريّة الّذي بدوره يقسم على احترام الدّستور

لقد بدا واضحاً إيلاء الدّستور اللّبنانيّ للمجلس الأعلى لمحاكمة الرّؤساء صلاحيّة النّظر حصراً في الجرائم الثّلاث الّتي أسلفناها نظراً لطابعها الهجين(جزائيّ-سياسيّ) والمتطابق تماماً مع طبيعة المجلس الأعلى الهجينة وهو المؤلّف من قضاة ونوّاب في نسفٍ لمبدأ فصل السّلطات عن بكرة أبيه، وربّما كانت نيّة المشترع أيضاً إضفاء بعضاً من الخصوصيّة لتلك الجرائم بسبب حساسيّتها المستمدّة من صفة مرتكبها(رئيس جمهوريّة، رئيس مجلس وزراء، وزير)

إزاء هذا السّرد، يثار التّساؤل عمّا إذا كان للمجلس الأعلى صلاحيّة محاكمة رئيس حكومة تصريف الأعمال والنّوّاب الوزراء سابقاً الّذين ادّعى عليهم القاضي طارق البيطار بجرم القتل القصديّ المبنيّ على القصد الاحتماليّ لجناية القتل وجنحة الإهمال والتّقصير، ونلفت في هذه العجالة إلى أنّ القصد الاحتماليّ مفاده أنّ المدّعى عليه قد تنبّأ بوقوع النّتيجة وقبل بتبعاتها الخطيرة وفي حال تحقّق تلك النّتيجة عوقب على أساس الجريمة المقصودة، أمّا في حال عدم تحقّقها فلا عقاب، ونصّت المادّة ١٨٩ عقوبات على أنّ “تعدّ جريمة مقصودة وإن تجاوزت النّتيجة الجرميّة النّاشئة عن الفعل أو عدم الفعل قصد الفاعل إذا كان قد توقّع حصولها فقبل بالمخاطرة”، وبالتّالي تشكّل هذه الجريمة إضافةً إلى جنحة الإهمال والتّقصير جريمتين جزائيّتين إلى أقصى الحدود بعيدة كلّ البعد عن السّياسة وهذا ما ينفي أيّ دور أو صلاحيّة في التّهام والملاحقة والمحاكمة للمجلس الأعلى لمحاكمة الرّؤساء والوزراء وإعلان صلاحيّة القضاء العدليّ العاديّ المتمثّلة في هذه الحالة بالمجلس العدليّ والمحقّق العدليّ

في النّتيجة، يتّضح لنا جليّاً أنّ المجلس الأعلى لمحاكمة الرّؤساء والوزراء ليس بمحكمةٍ جزائيّة إلّا إذا كان المتّهم أمامه رئيس الجمهوريّة مرتكباً جريمة خرق الدّستور أو الخيانة العظمى أو أيّ جريمة أخرى عاديّة، أو في حال كان المتّهم رئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء “فقط” في حال ارتكابهما الخيانة العظمى أو الإخلال بالموجبات الوظيفيّة

في الخلاصة، إنّ هذا المجلس الأعلى وعلى الرّغم من نشاطه المحصور بثلاث جرائم محدّدة وبثلاثة متّهمين محدّدين لا يجب أن يبقى وسيلة للفرار من وجه القضاء العدليّ العاديّ الّذي يتعرّض يوميّاً للتّنكيل، فالحلّ إذاً بالخضوع للقوانين الواجبة التّطبيق وعدم الالتفاف عليها عبر عريضة من هنا وتعديل دستوري

من هناك إنصافاً للجرحى والشّهداء والضّحايا ورأفةً بأهلهم…زمن العدالة آتٍ لا محال


Peter Hachem
Peter Hachem

DSP2

كلّ دولة في العالم بحاجة لدستور يحدّد إطارها وينظّم العمل في ما بين سلطاتها، فالدّستور يعتبر أب القوانين وأسماها، منه تنبثق القوانين الأخرى وإليه يتمّ الاحتكام، لذلك فإنّ نشر الثّقافة الدّستوريّة الّتي من شأنها الارتقاء بالمواطن إلى مستوًى يجعل منه فرداً صالحاً قادراً على التّمتّع بحقوقه المدنيّة والسّياسيّة واستخدامها في الأوقات المناسبة

المراجع

الدّستور اللّبنانيّ

النّظام الدّاخليّ لمجلس النّوّاب

قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرّؤساء والوزراء

قانون العقوبات اللّبنانيّ