بعد صراع دام طويلًا لمحاربة النظام الذكوري الأبوي، نالت المرأة اللبنانية حقّها في الادّعاء على الأفراد الذين كان من المفترض أن يكونوا مصدر حمايتها وأمانها، وعلى من يعنّفها من أفراد عائلتها. إلى أن جاء قانون العنف الأسري قانون رقم 293 الصادر في أيار 2014 بعد صراع طويل مع المؤسسات غير الحكومية التي تعنى بالمرأة والمحافظة على حقوقها. بحيث وُضع في الأدراج لعدة سنوات. وجاء هذا القانون بنسخة عن المشروع المقدم من جمعية “كفى” مع بعض التعديلات التي لا تتناسب مع تعاليم المحاكم المذهبية والروحية. هذا القانون ذو وجهين: الوجه العقابي، والوجه الحمائي، الذي يحمل في طياته نقاط قوّة ونقاط ضعف. بدايةً سوف نذكر المسار القانوني الذي تمرُّ به هذه الدعوى، ثم نعدّد سيئات القانون 293 وإيجابياته
أولًا: إنّ قانون 293 حصر الدعوى المقامة بموجبه بين أفراد الأسرة بالعنف الممارس من قبل الآباء على الأبناء، أو الممارس من الزوج على الزوجة أو العكس؛ أي بين أفراد الأسرة الواحدة. فقد عرّفت المادة الثانية الأسرة بأنّها ” تشمل كل من الزوجين والأب والأم لكل منهما، والأخوة والأخوات والأصول والفروع، شرعيين كانوا أم غير شرعيين، ومن تجمع فيما بينهم رابطة التبني أو المصاهرة، حتى الدرجة الثانية، أو الوصاية، أو الولاية، أو تكفّل يتيم، أو زوج أم، أو زوج أب”. إنّ المشرّع قد وسّع دائرة الذين يشملهم هذا القانون، ليشمل حتى أولاد التبني، والأولاد غير الشرعيين. فيتبين أنّ المشرّع أراد حماية أفراد العائلة من أيّ عنف يمكن أن يُمارس من قبل أحدهم، ويخرج من دائرة حماية العلاقات السابقة، والعلاقات غير الشرعيّة
والسؤال هو: ما أشكال العنف التي يشملها هذا القانون؟
يشمل هذا القانون العنف الجسدي، والنفسي، والجنسي، والاقتصادي. وكذلك يشمل حثّ القاصر من دون الثامنة عشر من عمره على التسول، فيعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبالغرامة، أو من يحضّ أنثى أو ذكر من أفراد عائلته الذي لم يبلغ الحادية والعشرين من عمره على الفجور والفساد الأخلاقي، أو من سهَّلَ هذه الأمور بحيث يعاقب بالسجن من الشهر إلى السنة مع غرامة. وأبرز ما جاء فيه هو كلّ شخص يقوم على تسهيل الدعارة ويعتمد عليها، ككسب رزقه. ويعاقب أيضاً بالسجن من شهر إلى سنة، وتشدّد العقوبة إذا وقعت بين أفراد الأسرة. بالإضافة إلى القتل، بحيث تشدّد العقوبة إذا وقع القتل من أحد الزوجين على الآخر، وتكون من العشرين إلى خمس وعشرين سنة، ومن يمارس فاحشة الزنا سواء كان الرجل أو المرأة يعاقب أيضاً من شهر إلى سنة. هنا نرى المساواة بين المرأة والرجل في التجريم والعقاب. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا القانون لم ينصّ على أن الاغتصاب الزوجي جريمة يعاقب عليها القانون اللبناني؛ بل من يتزوج في مجتمعنا امرأةً فكأنّه استحصل على صكّ ملكية حياتها وجسدها، ولهذا السبب لم يجرّم القانون الاغتصاب الزوجي، مع العلم أنّ هذه الحالات تزداد يوماً بعد يوم، والمرأة اللبنانية ما تزال صامتة، معتبرةً أنّ هذه الجريمة هي من الحقوق الشرعية، فيُنتهك جسدها نتيجة لهذا الفهم المغلوط. إنّ من الخزي القول إنّ هذا القانون يسقط الحق العام مع إسقاط دعوى الحق الشخصي. فمن المعلوم من قبل القانون والقضاء والمجتمع، أنّه يمارس على الضحية (غالباً الزوجة والأولاد) أشدّ أنواع اللّوم والظلم في حال مارست حقّها ورفعت دعوى على المعنِّف، معتبرين أنّ من المعقول والطبيعيّ تأديبها وإذلالها تحت مسمّى حريّة الزوج والأب بزوجته أو ابنته. وذلك برعاية العقليّة الجمعيّة المريضة المنتشرة في المجتمع. على القانون أن يفهم أنّه سيمارس الضغط عليها للتنازل عن شكواها، لذلك يجب ألّا تسقط دعوى الحقّ العام مع سقوط دعوى الحقّ الشخصي. إنّ هذا القانون أوضح أنّ المجتمع يظلم النساء، ولا يدافع عن حقوقهن، وهنا يتجسد الوجه العقابي لهذا القانون
المسار القانوني لهذه الدعوى
ككلّ الدعاوي التي تبدأ بشكوى، ولكن ما يميّز هذه الدعوى، هو الاختصاص المكاني لمحل إقامتها، حيث إنّ قانون أصول المحاكمات المدنية نصّ في أحكامه العامة أنّ الدعوى تقام في محلّ إقامة المدّعى عليه. ولكن من إيجابيات هذا القانون أنّه يسمح للضحيّة أن تقيم الدعوى ضمن نطاق محل إقامتها، والهدف هو تسهيل إقامة الشكوى. إنّ هذا القانون ينشأ لدى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، قطعة مختصّة للنظر بجرائم العنف الأسري، هذه القطعة تتولّى مهام الضابطة العدلية للنظر حصراً بهذه الشكاوى، ويخصّص محاميّاً عامّاً يتولى النظر بهذه الشكاوى، ومندوبين اجتماعيين ملمّين بالقضايا الاجتماعية والشؤون الأسرية. إضافة إلى وجود عناصر إناث لتوفير الطمأنينة في قلوب النساء اللواتي يلجأن إلى القانون للحصول على حقوقهنّ. فمن غير المنطقي أن يعاملن كأيّ مدَّعٍ يلجأ إلى الضابطة العدلية، بحيث يجب أن تراعي أنوثتهن ومشاعرهن، وهذه أيضاً من نقاط قوّة هذا القانون. إنّ عنصر قوى الأمن الذي يستمع إلى الضحية، عليه تحت طائلة الملاحقة المسلكية أن يعلمها بحقوقها. من حقها الحصول على أمر الحماية وتأمين الخصوصية اللازمة، وأهمّها أن لا يمارس عليها الضغط للرجوع عن شكواها، وبعد ذلك يحيط النيابة العامة علماً لأخذ إشارتها لاتّخاذ بعض التدابير التالية وهي
- إلزام المعنّف بالتعهد بعدم التعرض للضحية تحت طائلة إبعاده عن المنزل.
- توقيفه مدة 48 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة
- إلزام تسليف مبلغ لتأمين النفقات الطبية المترتبة عن العلاج من العنف الذي تعرضت له.
- النقل إلى المستشفى للعلاج على نفقة المعنف
- نقل الضحية مع الأطفال وسائر المقيمين إلى مكان آمن
- تكليف طبيب شرعي على نفقة المعنف أو النيابة العامة
هذه التدابير تتخذها النيابة العامة وليس لها علاقة بأمر الحماية، بل إن أمر الحماية يتخذ من قبل قاضي الأمور المستعجلة الآتي على ذكره
ما أمر الحماية وكيفية الحصول عليها؟
إنّ أبرز ما جاء فيه هو إمكانياتهم من الحصول على أمر حماية” الوجه الحمائي”، فأمر الحماية هو تدبير مؤقت يصدر عن قاضي الأمور المستعجلة. قاضي التحقيق، المحكمة الجزائية المختصة، ويصدر بالصورة الرجائية. والهدف من صدوره بالصورة الرجائية هو عدم المماطلة في تنفيذها، وعدم إبلاغ المدّعى عليه بهذا التّدبير. يعطى بموجب هذا القرار الحقّ للضحية المعرضة للعنف من الحصول على الحماية هي وأطفالها، ولأيّ فرد من الأسرة المعرضة للخطر. ولكن من نقاط ضعف هذا القانون هو، أنّ الأطفال الذين يشملهم أمر الحماية هم في سن الحضانة القانونية، وفقاً لقواعد الشرعية في كل طائفة، ما لم يقرّر القاضي اعتبارهم في خطر، وبالتالي يجعل أمر الحماية شاملًا لهم. إن هذا النصّ معيبٌ فمن غير المنطقي أن يسمح للضحية بالتخلي عن أطفالها الذين لم يشملهم النَّص القانوني للمشكو منه، والذي يمارس كل هذا العنف، حيث ستعيد النظر آلاف المرات قبل اللجوء إلى القضاء خوفاً عليهم، فهي تعلم أنها ستحرم منهم، لذلك لا بدَّ من إعمال هذا القانون على أكمل وجه من خلال تعديل هذه المادة، بحيث يصبح الأطفال والأولاد مشمولين بأمر الحماية، ومن غير المعقول أن يبقى الأولاد في عهدة المجرم الذي دمر الأسرة
وللحصول على هذا الأمر، يجب إثبات وقوع واقعة العنف، والإثبات يكون عن طريق تقرير الطبيب الشرعي
ما مضمون أمر الحماية وكيف نحصل عليها؟
هناك عدة تدابير يمكن أن تُتّخذ وهي الحصول على تعهّدٍ بعدم التعرض للضحية وسائر الأفراد المعددين في المادة 12 من هذا القانون، عدم التعرض لإبقاء الضحية مع المعنّف في أشغال المنزل، أو خروج المعنف من المنزل لفترة مؤقتة، أو إخراج الضحية مع من يشملها في أمر الحماية من المنزل في حال وجود خطر على إبقائها فيه، تسليف مبلغ للمأكل والملبس والتعليم من المشكو منه، والعديد من التدابير التي تحمي الضحية. هذه التدابير قابلة للتعديل أو التجديد. وحيث إنّ الحصول على أمر الحماية لا يحول من دون إمكانية المتابعة الجزائية؛ بل كما قلنا هو تدبير مؤقّت. فإنّ هذا التدبير الذي يتّخذه قاضي الأمور المستعجلة هو تدبير نافذ على أصله، أي يمكن تنفيذه بمجرّد صدوره ومن دون تبليغه. وإنّ الطعن فيه لا يوقف التنفيذ، ثمّ إنّ اعتباره نافذ على أصله، فهو لأجل الحفاظ على قيمته وأهميته. حيث إنّ تبليغه من المشكو منه قد يفقد الغاية منه، ويعاقب كل من يخالف أمر الحماية بالحبس ثلاثة أشهر، وبغرامة مالية، وإذا رافق هذه المخالفة عنف؛ تشدّدت العقوبة بالسجن حتى السنة. إضافةً إلى زيادة الغراميّة. علماً أنّ تقديم أمر الحماية لا يحتاج إلى الاستعانة بمحامٍ؛ بل يمكن للضحية اللجوء إلى قاضي الأمور المستعجلة المختصّ حسب محلّ إقامة الضحية، وهو طلبٌ خالٍ من أيّ رسوم، بل إنّ استئناف هذا الطلب في حال الرفض يكون عن طريق محامٍ بواسطة القاضي الذي أصدره. ولكن الاعتراض عليه من قبل المعنّف يكون أمام القاضي نفسه
إنّ من إيجابيات هذا القانون هو خضوع المعنّف إلى دورات تأهيلية ضد العنف في مراكز متخصصة، ولكن هذا القانون لم ينشِئ أيّ مراكز للتأهيل ولا إلزامية الخضوع لتلك الدورات، وهناك أهمية قصوى لوجودها. من الجدير بالذكر أن المؤسسات غير الحكومية اتخذت الخطوة وأنشأت المراكز المختصة بتأهيل المعنف. مثال: افتتاح مركز توعية لتأهيل الرجال ضد العنف الأسري بمبادرة من جمعية”أبعاد” وبالاشتراك مع ” الهيئة الطبية الدولية”، يضم خبراء نفسيين ويقدم الدعم بشكل سري ومجاني
وأخيراً إنشاء صندوق يتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري، لمساعدة ضحايا العنف الأسري
هذه بعض الإحصائيات عن ازدياد حالات العنف خاصة بعد جائحة كورونا. حيث سجّل قوى الأمن الداخلي 1018 بلاغاً للعنف الأسري على الخط الساخن 1745، بين بداية شهر كانون الثاني، ونهاية شهر آب 2020. مقابل 458 بلاغاً سجّل في 2019، أي بفارق 560 شكوى
منظمة “أبعاد” تلقّت بدورها أيضاً بين الفترة عينها 3085 بلاغاً مقارنة مع 1193 من عام 2019
منظمة “كفى” تلقّت 4723 اتصالًا في عام 2019، في حين 5755 اتّصالًا سنة 2020 بين بداية شهر كانون الثاني ونهاية شهر آب
إن هذه الأرقام مخيفةٌ، حيث تعبّر عن واقع المرأة في عالمنا، وصعوبة الحياة التي تعاني منها جرّاء نظام ذكوريٍّ يتسلّط على حياتنا، ويسيطر على أحلامنا بواسطة تقاليد وأعراف بالية، وتجعلنا رهينة مجتمع لا يرحمنا
فمن قضية زينة، إلى قضية ساندرا الصلح، وقضية لطيفة قصير الأم التي خُنقت على يد زوجها في جريمة مروعة، قُتلت اليوم مرة ثانية بحيث أخلي سبيل قاتلها بعد 11 عاماً على توقيفه، تحت اعتبار حسن السلوك. فضُرِب بعرض الحائط عدم اسقاط الحق الشخصي، وقانون العنف الأسري
كلّ هذه الجرائم ترتكب بحق نسائنا وبناتنا، والقضاء صامت – فلا بدَّ من توفير الحماية والأمان لأولئك المناضلات