يحدّثنا الكاتب الإنكليزي الشهير جورج اورويل، قائلا: في عصرنا هذا لا يوجد شيء اسمه بعيدًا عن السياسة، كل القضايا هي قضايا سياسية
في طريقنا الى دراسة كافة انواع العلوم، يستوقفنا علمٌ بحدّ ذاته، أبى الابتعاد عن زملائه (اي العلوم الاخرى). في ضمنته دراسة اشمل لحقول شتّى وأصعدة على تنوّعها، كما يدخل تأثيره على كل مجالٍ يُذكر. متى سُئلنا عن علمٍ رفيع يذهب إلى ما هو أرقى من مصالح الذات وتعلو فيه المصلحة العامة العرش الأشرف، لا بدّ أن تجيب ألسنتنا فاخرة بذكر علم السياسة
بدايةً، ببحثنا عن تعريف رسمي ودقيق لعلم السياسة، نواجه الكثير من الإشكاليات. ففي بحثنا ذاك يظهر لنا التطور التاريخي لعلم السياسة وتعدد معانيه، مما يصعّب إيجاد تعريف واحد وشامل لهذا العلم. لقد حاول الباحثون وضع هذا العلم بإطار بحر من المعلومات التي تكشف ماهيته، إلّا انّهم لم يتوصّلوا إلى مفهوم دقيقٍ ونهائي. تعود جذور مصطلح سياسة الى الكلمة اليونانية Polis أي المدينة. وفي اليونانية القديمة يعني مصطلح Politiká أي فنّ تنظيم المدينة وهيكلة السلطة فيها. يظهر في ما سبق علاقة بين عنصرين فاعلين في هذه المدينة وهما السلطة والقاطنين فيها، والواضح هنا أنّ مهمة السّلطة هي الإدارة والتنظيم بالإضافة الى رعاية الافراد المتواجدين في المدينة. والسؤال الأمثل بعد كل ما طرحناه أعلاه، كيف يساهم علم السّياسة في بناء الأوطان؟
من قوة الإدارة إلى إدارة القوة
هناك من عرّف السياسة من زاوية مبدأ الدولة لارتباطها بمفهوم الدولة منذ نشوء المجتمعات البشرية. وفي بحر الزمان، توصّل الباحثون لوضع التعريف التالي للسياسة: مجموعة معارف، تستخدم لإدارة السياسة العامة وسبل تطبيق هذه المعارف في مختلف ادارات الدولة. هناك ايضا من عرّف السياسة من زاوية مبدأ القوة أو الصراع بين القوى الهادف الى السيطرة على السلطة، قائلا: تستخدم فيه وسائل الإغراء والترهيب والإقناع والسيطرة والهيمنة والإرغام والإكراه
ثَمّة من أظهر الوجه البعيد عن العنف للسياسة، مثل موريس دوفيرجر (Maurice Duverger)، معرّفا ايّاها على أنها جهد دائم من أجل إزالة العنف الجسمي، من أجل إمداد التعارضات الاجتماعية والفردية بوسائل أخرى من وسائل التعبير، وسائل أقل قسوة ووحشية ودموية… فالسياسة هي نفي الحرب الاهلية… فالسياسة تميل الى ان تحل محل الأيدي والخناجر والحراب والبنادق ووسائل أخرى من وسائل القتال. وآخرون عرّفوها على ركيزة التحويل السّلطوي للقيم اي علاقات السلطة بالأفراد وبجميع المؤسسات القائمة ضمن المجتمع
لكن بهدف خدمة دراستنا ارتأينا انّ التعريف الاوفق لهذا العلم هو تعريف بودوت (Baudot)، وهو التالي: هي المادة الاكاديمية التي بُنِيت تاريخيًّا، هدفها دراسة الأسس المنطقية التي قامت عليها المجتمعات وغرضها السياسي. تتداخل السياسة مع علوم إنسانية أخرى لتفسير المظاهر الاجتماعية وتحليلها، وتستعين بمبادئ وأساليب هذه الفروع لخدمة الدراسات التي تقوم بها. ويؤلّف علم السياسة الى جانب العلوم الأخرى العلوم الإنسانية. هذا المفهوم هو الأكثر شمولية وهو الذي سننطلق منه بهدف إبراز أهمية هذا العلم وأثره على أرض الواقع
بعد هذا العرض البسيط، نستنتج أن علم السياسة هو فرع من فروع العلوم الإنسانية يهدف إلى دراسة المنظومة السياسية للمجتمع بما فيها هيكلية السلطة وآليات عملها والتفاعلات والعلاقات التي ترتبط بظاهرة السلطة
وعي، مواطنية، انتماء
لم يمضِ وقتٌ لم تمثّل السياسة فيه محورا يدور في فلكه أقطاب مجتمعية تربط فيما بينها هدف مشترك وهو مصلحة الفرد. التّرابط بين أجزاء العملية السياسية وتفسير ما يدور في الساحة السياسية ضروريّان لاتخاذ القرار السياسي الملائم. إنّ السياسة لعدد من الإجراءات والسبل التي تؤدي بدورها إلى اتّخاذ قرارات تصب في مصلحة المجموعات والمجتمعات البشرية
للسياسة أهمية كبرى لمدى تأثيرها في حياتيّ الدولة والإنسان من مهدهما الى لحدهما. فكل ما يتعلق بحياة الإنسان تشرف عليه السّلطة السّياسية. وقد باتت هذه الأخيرة تتدخل بشاردة وواردة الحياة، بغَض النظر عن دنو المسألة او بعدها عن السياسة ومعتركاتها
تنجلي في علم السياسة ظواهر تُدرَس وتُحَلَّل: ظاهرة السّلطة السّياسية، ظاهرة المجتمع السّياسي أي التجمع البشري الغريزي، والارتباط الجماعي بإقليم معين وما يُعرف بالوطن. نزيد على هذه: ظاهرة التّمييز السّياسي في السّيطرة على الآخرين والاستعداد في نفس الوقت للطاعة، مما يُنتج انقسام المجتمع إلى حكّام ومحكومين. تبقى هذه الظاهرة خالدة ومعبّرة
الى جانب الأحزاب السّياسية والرّأي العام وجماعات الضغط والمصالح وغيرها تندرج هذه الظّواهر ضمن حقول وفروع تتشعب من علم السّياسة وتدخل ضمن دراسته، منها: الفكر السّياسي، النّظريات السّياسية، الأنظمة السّياسية، التّنمية السّياسية، أبحاث الرّأي العام، القانون الدّولي، العلاقات الدّولية، التّحليل السّياسي، الدّولة وأركانها، جماعات العمل السّياسي
إن أهمية علم السّياسة لا تُحصر في درج النّظريات. فعلينا الّا ننس أنّ هذا العلم يهدف الى جعل المواطن واعٍ وصالح من خلال تزويده بالعلوم والمعارف السّياسيّة الواضحة وتعريفه بنظامه السّياسي القائم. كما من صلب أهدافه إيجاد الحلول لمنع نشوب الصّراعات بكافة انواعها والحدّ من التّنافر. بالإضافة الى ما سبق، من مرامه ايضًا تنمية مشاعر الولاء للوطن. كل هذه تصبّ في تحضير مجتمع متقدّم، ولكن نعود ونشير أنّ تهيئة المواطنية الصّالحة هي الغاية الأساسية التي يسعى الى تحقيقها العلم السّياسي
نحو مستقبل واعد
أخيرًا، أشير إلى أهميّة إدراج قسم علم السّياسة الى موقع المراجعة القانونية اللبنانية. نادرًا ما نجد اشخاصًا ملمّين في العلاقة الوثيقة بين الحقوق أو القانون والعلوم السّياسية، لذا بات من الضّروري إحاطة القارئ بما يزيده ثقافة حول هذا الموضوع
تربط بين الحقوق او القانون والعلوم السّياسية علاقة تعاونية: أولًا، انّ أحكام التشريعات هي انعكاس لاستراتيجية الحكومة وترجمة لاتجاهاتها. فالقوانين تشكل مرآة صادقة لسياسات الحكومات. ثانيًا، إذا كان القانون ينشأ في بيئة اجتماعية، فإنه لا بد ان يكون متأثرا بها ومتطوّرا معها في مسار تقدمها، لذلك كان اختلافه من بيئة إلى أخرى بحسب اختلاف الظروف والحياة فيها. إذا، السّياسة تلتزم مواكبة المجتمع وتطوّره وتصبو إلى استيعاب ثقافة عصرها، كما تأخذ بالحسبان القوانين الموضوعية التي تحكم الوضع القائم. هذا يؤدّي في ناحية ثالثة، وهي الأهم، الى اجتماع القانون والعلوم السّياسية حول محور واحد واساسي وهو المصلحة العامة
إنّ ادارة الحياة العامة يتطلّب فنّا هو فنّ الحكم لان هذه لإدارة بعموم مجالاتها هي من اهم عوامل تحديد قوة المجتمع، فيمكن ان تسير بالمجتمع الى الرّقي او تؤدي به الى التخلّف والانهيار. هذا العلم الّذي حيّر أمره المفكرين هو العلم الذي لا يمكننا الاستهتار به او التغاضي عنه، هو علم بناء الأوطان: علم السّياسة