فرح اللبنانيون بعد انتظارٍ دام طويلًا لصدور مشروع قانون يُعنى بمعاقبة جريمة التّحرّش الجنسي. حيث جاء هذا المشروع بمثابة انتصار، ولو كان صغيرًا، لفئة كبيرة من اللبنانيين واللبنانيات الذين وقعوا ضحايا هذا الجرم إلّا أن ضعف بعض هذه المواد لحماية هؤلاء الضّحايا جاء صادمًا إلى حدٍّ ما، هذا بغض النظر عن ركاكة البعض الآخر. وجاء ملفتًا عدم تجريم التّنمر كما فعلت القوانين الأخرى المشابهة، ومنها القانون المصري، حيث اقتصر الحديث على تجريم جريمة التّحرّش, وعليه سنعمد في هذا المقال لتسليط الضوء على بعض المشاكل التي طوّقت مشروع القانون هذا، بالإضافة إلى إعطاء المشرّع حقّه في بعض المواد التي أتت على درجة عالية من الحكم
في المصطلحات
ورد في المادة الأولى من اقتراح القانون الرامي الى معاقبة جريمة التحرش الجنسي لا سيما في اماكن العمل تعريف للتحرش الجنسي على انه أي سلوك سيء متكرر خارج عن المألوف، غير مرغوب فيه من الضحية، ذي مدلول جنسي يشكّل انتهاكاً للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر يقع على الضحيّة في أي مكانٍ وُجِدَت، عبر أقوال أو أفعال أو إشارات أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية وبأي وسيلة تمّ التحرّش بما في ذلك الوسائل الإلكترونية
و قد ورد مصطلح التكرار في هذه المادة في غير محله، فكان أول ما يلفت نظر القارئ عند اطلاعه عليها. إذ أن في هذه الجريمة انتهاك لحرمة الجسد ولا يمكن بالتالي اعتبارها من جرائم الاعتياد لأنها خطِرة من اللحظة التي تتم فيها. وبالتالي لا يُعقل انتظار تكرار هذا العمل لمعاقبة فاعله. وهذا إذا قدّر القاضي ان المقصود بالتكرار هو من المرة الثانية، ولم يرى ان التكرار يوجب الاعتياد. وعليه، يجب ان يقع عدد من الضحايا ولا يُكتفى بواحد للتمكن من الملاحقة الجزائية، وهذا الأخير يخرج عما تقتضيه مبادئ العدالة والانصاف. فكيف للضحية الأولى المطالبة بحقها لانتهاك حرمة جسدها او خصوصيتها او حتى مشاعرها؟ … لذلك أخطأ المشرع باشتراطه التكرار لاعتبار العمل تحرّشا جنسيا، اذ انه يعد كذلك ومن المرة الأولى
وورد في المادة الثانية من هذا القانون فيما يخص العقوبات “يعاقب كل من أقدم على ارتكاب جريمة التحرش الجنسي بالسجن من شهر حتى سنة” و انه من المتعارف عليه ان العقوبات الجناحية في قانون العقوبات اللبناني هي الحبس، والجنائية هي الاعتقال، أما مصطلح السجن هذا، وان كان مرادف للحبس، فهو مصطلح معتمد في القانون المصري وغيره من القوانين العربية الأخرى لكن ليس اللبناني. وقد يرى البعض ان اعتماد مصطلح مرادف بالمعنى دون الآخر ليس ذو شأن كبير، لكنه كذلك من وجهة النظر القانونية. اذ انه لا يصح اعتماد مصطلح غير المتعارف عليه قانونًا وإن كان يحمل الأول نفس معنى الأخير وعليه، يحمَّل على المشرّع اللبناني عدم التفاته لهذا الامر الذي يُعد بأهميته بديهيًّا
نصّت المادة الثالثة من نفس القانون على انه “في حال التكرار يعتبر التحرش الجنسي جرم شائن وهنا نعود للفكرة المناقشة في بداية هذا المقال، فما مدى ضرورة تكرار التحرش لاعتباره جرمًا شائنًا؟ اليس من المنطقي ان جريمة مخلّة بالآداب العامة كالسابق ذكرها تعتبر جرمًا شائنًا بمجرّد حصولها؟ ان تكرار هذه الجريمة ليس سوى تأكيد على وضاعة مرتكبها، ولا يحول عدم تكرارها دون اعتباره واعتبارها كذلك
أمّا بالنسبة لما ورد في المادة الرابعة “…أو تجديد عقد عملها أو فرض عقوبات تأديبية بحقها…” فقد جاءت صيغة المؤنث بغير مكانها إذ أن التحرش قد يقع ضحيته الذكر أو الأنثى ولو كانت احتمالية الأخيرة أعلى نسبيًا، لكن هذا لا ينكر تعرّض الذكور له أيضًا لذلك كان من الأسلم لغويًا استعمال المشرّع لصيغة المذكّر في كافة البنود دون استثناء إذ أن هذه الأخيرة تشمل الاثنين
في الموضوع
قبل مناقشة المواضيع التي شملها مشروع القانون، لا بد من لفت النظر لبعض المواضيع التي سها عنها. ومنها عبء الإثبات مثلاً. كون المشرّع لم يتطرق للأخير، تعمد للقاعدة العامة القائلة أن البيّنة على من إدّعى خلاف الأصل. ولو كان الإثبات بكافة الوسائل، إلّا أن هذا النوع من الجرائم يصعب إثباته لأنه غالبًا ما يتم على درجة عالية من السّريّة والمباغتة. وكان هذا سببًا رادعًا للعديد من الضحايا يحول دون تقدّمهم من المحاكم لظنّهم عجزهم عن الإثبات. وعليه، كان أولى بالمشرّع اللبناني أن ينقل عبء الإثبات على المدّعى عليه لنفي التهمة عنه. وهذا ما نصّت عليه بعض القوانين الأخرى فيما خصّ ذلك
وتجدر الإشارة أيضًا إلى شدّة التحديد الوارد في المادة الأولى من المشروع بتعريفها للتحرّش. إن هذا التقييد على سلطة القاضي لتصنيف التصرفات على أنها تحرّش أو لا، والتفصيل المطلوب بموجب المادة، يُخرج العديد من التصرفات من تحت مظلة هذا القانون، علمًا أنه كان من الأجدر أن تدرج ضمنه. وهذا كان سيكون لو أُعطي للقاضي بعض السّلطة الاستنسابية في بعض الأحوال
ورد في المادة الثانية بفقرتها الثالثة تمييز لحالات يكون الضحية فيها حدث أو من ذوي الاحتياجات الخاصة حيث شدد المشرّع العقوبة فيها. ويعود تبرير ذلك لهشاشة وبراءة الضحية في هذه الحالة، ما يزيد من بشاعة هذه الجريمة أضف الى ذلك ضعف الضحية مما يستتبع حماية أكبر لهم منعًا لاستغلال المجرم لذلك فحسنًا قام المشرّع بتشديده العقوبة في هذه الحالات، وإن كانت الأولى حتّى بعد تشديدها لا تتناسب مع خطورة الجرم محل البحث
وورد استثناء على قاعدة “الجزاء يعقل الحقوق” في المادة الخامسة من هذا القانون حيث نصّت على “لا تُعلق مباشرة الملاحقة التأديبية على الملاحقة الجزائية”. اذ ان المبدأ انه لا يُبت أو ينظر في أي دعوى طالما هناك دعوى جزائية عالقة بخصوصها إلّا أن بهذا الاستثناء تشدد في معاقبة هذه الجريمة في حال حصولها من قبل موظف في القطاع العام، نظرًا لما يمثله هذا الأخير
أخيرًا، نرى أن المادة السادسة جاءت لتمثّل باب هدرٍ وفسادٍ جديد للطبقة الحاكمة, إذ انها نصّت على انشاء صندوق خاص لمساعدة الضحايا واعادة تأهيلهم، علمًا أن معظم الصناديق الخاصة السابقة فشلت بأداء مهمتها فشلًا ذريعًا بل على العكس من ذلك، باتت عبأُ على كاهل الدولة ولكن ليس المسؤولين
على الرغم من كون القانون محل البحث يحمل في طياته بعض الثغرات، إلّا أنه بشكلٍ عام يتناول احدى الجرائم اليومية التي تفشّت في مجتمعنا بشكلٍ خطير، على أمل ان يحد تطبيقه منها. فهل سيشهد هذا القانون تنفيذًا فعليًا على أرض الواقع؟ أو لن يتعدّى كونه حبرا على ورق؟
المراجع
قانون التحرش الجنسي اللبناني 2020-
قانون العقوبات المصري 2020-