ولد الانسان حراً… ممّا يعني ان الحرية تكاد تكون الانسان نفسه، وبالتالي هي علّة وجوده
الحرية، حق مُنح لكل البشر؛ وليس لأحدٍ على الاطلاق، أن يحرم أحداً منها، أو لإنقاصها، أو تحديدها، والمسّ بها. وأبسط مظاهرها حرية الفكر، والتعبير، والرأي، والمعتقد، والحق في الاختلاف. لكل فرد حق ان يمارسها من دون أية ضغوط او اضطهاد أو قمع
و السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذه الحرية في لبنان مطلقة امّ مقيّدة؟
التزم لبنان في مقدمة دستوره بنص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، كذلك بالعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللذين أبرمهما لبنان، باحترام حرية الرأي و التعبير
فالمشترع اللبناني أولَى “مبدأ الحرية” شأناً رفيعًا، فرسّخه في مقدمة الدستور اللبناني – الفقرة “ج” كما في القوانين الوضعية
وقد نصت الفقرة “ج” على ما حرفيّته: لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل
يتميّز لبنان عن العديد من الدول ، وعلى وجه التحديد دول الشرق، باعتباره متقدماً عليها في ممارسة “الحريّة” سواء حرية الرأي او التعبير و ما الى ذلك، لكن هذا لا يعني ان مبدأ الحرية معمول به بشكل مطلق، إذ ان هذه الحريّة ليست كاملة بل هي منقوصة، وتخضع في حالات عديدة الى التقييد بضوابط، فعلى سبيل المثال، المادتان 8 و13 من الدستور اللبناني تنطويان على ثغرة أساسية بوضع ضوابط على الحرية تقيّدها وتحد منها عبر وضعها “ضمن دائرة القانون”، حيث نصّت المادة “8 – دستور” على ما حرفيته
الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون ولا يمكن أن يقبض على أحد أو يحبس أو يوقف إلا وفاقاً لحكام القانون ولا يمكن تحديد جرم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى القانون
حرية إبداء الرأي قولً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون
م. 13 دستور
إضافة الى ذلك، فانّ قانون المطبوعات نصّ على أن المطبعة والصحافة و المكتبة ودار النشر والتوزيع حرة، ولا تقيد هذه الحرية إلا في نطاق القوانين العامة وأحكام هذا القانون، اذ يتضح من ذلك وجود قيود عدة على هذا القانون أيضا
والى جانب تلك الضوابط حول الحرية، فإن المشترع اللبناني وضع إجراءات عقابية، تتعارض مع حرية ابداء الرأي، وتحد منها الى حد التضييق والقمع، ويتبيّن ذلك بشكل جلي، في المادة 384 من قانون العقوبات اللبناني التي تنص على من حقر رئيس الدولة عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين
وأيضا في قانون جرائم المطبوعات التي يعاقب من يتعرّض (الصحافيين) لشخص رئيس دولة أجنبية بالسجن سنتين. وكذلك الامر في المادة 35 من قانون تنظيم الإعلام المرئيّ والمسموع، التي تنص على معاقبة المؤسسات الإعلامية المخالفة لقانون بعقوباتٍ تصل الى الاقفال. ولا يقتصر الامر في لبنان على تقييد حرية الإعلام، بل يشمل ذلك الأفلام السينمائية والمسرحيات، حيث تخضع للرقابة المسبقة بذريعة المحافظة على الآداب العامة. للمديرية العامة للأمن العام، صلاحية اقتطاع مقطع أو مقاطع، أو منع نشر أو عرض أي عمل يعتبره منافيا للآداب العامة او الدين
وقد وردت في قانون العقوبات وقانون المطبوعات وكذلك في قوانين الاعلام المرئي والمسموع قيود تتعلق بتعكير السلامة العامة والمسّ بوحدة البلاد وسيادة الدولة واستقلالها وإثارة النعرات الطائفية والتحقير والقدح والذم، جميعها مفاهيم غالباً ما لجأت السلطات إلى اثارتها لتقييد حرية الرأي والتعبير. الجدير بالذكر، انه في كل ما سبق مما تسمى “ضوابط وقيود” لا يوجد تعريف واضح لها، اذ يجب ان تفسّر حصراً حتى لا تترك المجال مفتوحا للتأويل والاجتهاد والتوسّع بالتفسيرات التي قد يستغل لمزيد من التضييق
وفي ذات السياق، يندرج ما يشهده لبنان في الوقت الراهن، من تحركات احتجاجية وتظاهرات ومطالبات شعبية، حيث تكشّفت بشكل صارخ قمع الحريات، إن بمحاولة اسكات حرية الرأي والتعبير، تضاف اليها الاستدعاءات المتتالية بسبب مقال في صحيفة، او رأي او تعليق على مواقع التواصل الاجتماعي. وكثير من هذه الاستدعاءات افترائية يوحي بها نافذون في الدولة او سياسيون طالهم الانتقاد، ويربطون ذلك بقوانين تُجرّم القدح والذمّ
في الخلاصة، فإن لبنان لم يعطِ الحرية تكريساً مطلقاً
بل وضع ضوابط وقيود تحد من حرية الفرد، على اعتبار أنها ضرورية لحماية النظام العام والأمن القومي والمصلحة العامة والأخلاق العامة. إذ أن هذه النصوص القانونية تخالف للمواثيق الدولية التي ابرمها لبنان. من هذا المنطلق، وفي ظل التطور التكنولوجي والاجتماعي والثقافي في المجتمعات، يتحتّم على لبنان تعديل القيود الموجودة في نصوصه وقوانينه كي تتلاءم مع المواثيق الدولية