مرّ على لبناننا الحبيب و عروسه بيروت ويلات و كوارث لا تعد ولا تحصى منذ بدء التاريخ؛ ورغم ذلك بقيت بيروت درّة عواصم العالم. ولكن، لم يكن أحد يتوقع بأن القدر قد أخبأ ل”ست الدنيا” ما هو أهول و أفظع. الثلاثاء ٤ آب ٢٠٢٠ ،احترقت بيروتنا الحبيبة، تفجر مرفأها نافذة لبنان إلى العالم وتفجّر معه فساد وجشع وحقارة أولئك الذين يدعون أنفسهم حكامنا، فأظهر لأمم العالم المرتعدة من هول الحدث حقيقة طغمة حاكمة وصلت إلى هذا القدر من الإهمال و اللامبالاة فأودت بحياة كثيرين و دمرت حياة كثيرين
ماذا حصل؟ إنّه السؤال الوحيد الذي يتبادر إلى ذهن كل من يتذكر ذلك اليوم المهول بفظاعته والذي لم يحرّك مشاعر تجار الهيكل اللامبالين رغم هذه الكارثة التي شكّلت أوج المصائب الحالة بلبنان. في وقت الشدّة هذا،ابتلينا نحن كلبنانيين بكثرة الجدل من ساستنا حول أسباب الحدث الذي جرى و قلّة العمل في سبيل الوصول إلى حلّ يخرج المرفأ من البلوة الحالّة به؛ كما أنّنا ابتلينا بفائض من الكلام المعسول الشعريّ حول هول المصيبة كل يوم في حين أنّنا نسعى إلى نسيان ذلك اليوم في سبيل المضي قدماً نحو الحلّ. و لكن قبل مناقشة الحلول و ما لفّ لفيفها؛ يجب أن نتحدّث عن بضعة حقائق مهمة حول المرفأ بشكل عام تساعدنا على فهم الكارثة بشكل أوضح و أعمق بحيث أنّ أضرارها أكبر من البشر و الحجر
لوجيستيّاً، يعتبر مرفأ بيروت البحري من أهم النقاط الجغرافية في منطقة شرق المتوسط، إذ يأمن صلة وصل استراتيجية بين أسواق آسيا و أوروبا وإفريقيا. يعتبر المرفأ أكبر نقطة تجارة بحرية في المنطقة إذ كان يمثل ٨٢٪ من مجموع صادرات وواردات الدولة اللبنانية كما كان يستوعب حوالي ٩٨٪ من مجموع الحاويات في لبنان. ومن ناحية الإيرادات، فإنّ أحواض المرفأ الأربعة التي يبلغ عمق كلّ منها ٢٤ متراً و أرصفته ال١٦ كانت تدخل إلى خزينة الدولة اللبنانية سنويّاً حوالي ال٢٥٠ مليون دولار من الضرائب والرسوم الجمركيّة. افتتح المرفأ عام ١٨٩٤ واستخدم في الأساس لاستيراد البضائع المهمة من حول العالم وتصديرها من الداخل اللبناني إلى بقيّة دول الشرق الأوسط. أما في ٢٠٢٠؛قبيل الإنفجار، كان لمرفأ بيروت صلة مباشرة ب٥٦ مرفأ في ٣ قارات وكان يصدّر البضائع بالتعاون مع ٣٠٠ مرفأ حول العالم، كما أن أهراءاته كانت قادرة على استيعاب ١٢٠،٠٠٠طن من المنتوجات الزراعيّة. هناك ١٣ مرفأ في لبنان ولكن مرفأ بيروت يصنّف كأحد أهمّ ١٠ مرافئ بحريّة في منطقة الشرق الأوسط و بوابته
إذاً، إنّ هذه المعلومات تساعدنا على فهم السبب وراء تسابق الدول للسيطرة على مرفأ بيروت تحت ذريعة مدّ يد العون، و هو بهدف بسط نفوذها على التجارة البحريّة في شرق المتوسط. لذا، إذا قبلنا اليوم كلبنانيين بخصخصة المرفأ و سمحنا لدول أجنبية ببسط نفوذها على المرفأ نكون قد أخطأنا الخطيئة المميتة و طرقنا المسمار الأخير في نعش السيادة اللبنانية التي لا يخفى اختراقها و انتهاكها على أحد. إن مواجهتنا اليوم لهذه الأزمة يضعنا اليوم أمام مفترق طرق في تاريخ لبنان الحافل بالأزمات،إمّا أن نبيع آخر معالم سيادتنا للخارج وإمّا أن نعتمد، و لو لمرّة، على أنفسنا وعلى عقليتنا اللبنانية الفذة لحلّ هذه الأزمة
منذ ٤ آب ٢٠٢٠، و مشاريع الإنقاذ الأجنبية تتدفق لدينا، إلاّ أنّ في الداخل اللبناني مشاريع ضخمة تضاهيها أهمية و من أبرزها مشروع المهندس شربل أبو جودة، مشروع إعادة إعمار ضخم للمرفأ و محيطه و إضافات أخرى متطورة تجعلنا نفتخر بأن مثل تلك العقول الفذة و أصحاب الرؤية هم لبنانيين. و في مشروع شربل أبو جودة أملاً عظيماً لهذا الوطن العظيم؛ تبلغ قيمة المشروع مليارات الدولارات و فيه كمٌّ هائلٌ من الطموح؛ من تكبير للحاويات و الأرصفة و إزاحة السنسول الحالي ٥٠٠ متر إلى عرض البحر و ربط المرفأ بسكك حديدية للشحن البري عبر سقف نهر بيروت، إلخ
يقول سيروج ابيكيان مؤسس ومدير مركز ميك افيرز للدراسات: بعد اطلاعه على الكثير من الدراسات والهندسات والطروحات اللبنانية والأجنبية لإعادة بناء مرفأ بيروت ، رأى أن ليس من المفروض أن نكتفي بإعادة ما تدمّر من المرفأ، لا بل جعله اهم من ما كان لتوسيع دوره في شرق المتوسط كي يكون منافساً لمرافئ الجوار. من هنا يتبين أن طرح المهندس شربل ابو جودة افضل كونه طرح هندسي اقتصادي عصري وخدماتي، أي اشمل من جميع ما تم طرحه. لذا هذه الخطة هي الأفضل، واليوم وعلينا أن لا نقبل لبلادنا اقل منها
عند قراءتنا لمثل هذا المشروع، تنتابنا مرارة تمتزج مع فخرنا الشديد بسبب الإحتمال الدائم بأن يتم رفض هذا المشروع لسبب أو لآخر؛ غير أنّه يصبّ في صالح الأمّة و سيعيد الحياة إلى مدينة الحياة و ذلك بتكلفة أقل من قيمة الأضرار التي لحقت بالمرفأ، وذلك حسب دراسات المشروع. إذاً، ألم يحن الوقت أن نتحدّ كلبنانيين حول حل وطني في سبيل مصلحتنا التي أزهقت كالدم طوال هذه السنين؟
أيّها القرّاء الكرام، هناك ما يجب أن يحصل وها هو الحلّ مطروح أمامنا، فإلى أين بعد اليوم؟
-أنطوني عادل بو زيدان –