مع نهاية العام 2019، والليرة اللبنانية في انحدارٍ غير مسبوق، حيث تدهورت قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي بشكل كارثي، مما أدى إلى هبوط القدرة الشرائية. وبالتالي، شكلت أزمة معيشية في مختلف ميادين الحياة عامةً، وعلى مسألة عقود الإيجار خاصةً، الذي أدى نشوب نزاع بين المالكين والمستأجرين، وذلك بعد القرار القاضي بمنع المصارف المودعين من سحب الدولار الأمريكي
وفي ظلّ وجود أكثر من سعر صرف للدولار في لبنان، بين ال 1,500 والذي لم يعد سعراً حقيقياً معتمداً، وسعر المنصة الصادر عن مصرف لبنان وفق ال 3,900، وبين سعر السوق السوداء غير الخاضع لأي ضوابط والذي بات يلامس ال 18 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، أصبح المستأجر في حيرةٍ من أمره حول ما هو سعر الصرف الواجب إعتماده، خاصةً أن أغلب عقود الإيجار محررة بالدولار الأمريكي وليس بالليرة اللبنانية. فالإشكالية تتمحور أولاً، حول ما إذا كان يحق للمالك أن يجبر المستأجر على الدفع بالدولار الأمريكي؟ ثانياً، وفق أي سعر صرف سيتم الإيفاء؟
المبادئ العامة التي ترعى العقود
إنطلاقاً، من مبدأ العقد شريعة المتعاقدين الذي يكرس لأطراف العقد حق الإتفاق على الشروط التي يريدونها مهما كانت، بشرط أن لا تكون مخالفة للنظام العام أو الآداب العامة. نستنتج من هنا، أنه يجب على المتعاقدين الالتزام بالعقد وتنفيذه بكل ما اشتمل عليه ووفقاً لمضمونه، كما أنه لا يعود لأحد أطرافه بإرادته المنفردة نقضه أو تعديله إلاّ باتفاق الفريقين أو لأسباب يقررها القانون. وبالاستناد لمبدأ الحرية التعاقدية، والفقرة 2 من المادة 301 من ق.م.ع التي نصّت على أن المتعاقدين أحرار في اشتراط الإيفاء بالعملة الأجنبية. وعقد الإيجار، كغيره من العقود، يخضع للأحكام والمبادئ العامة التي ترعى العقود، فهو يخضع للحرية التعاقدية ولمشيئة المتعاقدين. كما أنه من العقود ذات التنفيذ المتتابع أي التي يمتد تنفيذها مدة من الزمن
فالعقود تفسر وفقاً لنية الفرقاء، كما يجب أن ترتكز على مبدأ التوازن بالتعاقد كونها مرتبطة بالمنفعة الإقتصادية منه، خصوصاً لجهة المؤجر. في مثال توضيحي، إذا كان بدل الإيجار محدداً ب 400$ أي يوازي 600 ألف ليرة لبنانية، هذا وفقاً لسعر الصرف السابق أي 1,500، فإن القدرة الشرائية مؤمنة سنداً لهذه القيمة، إلاّ أنه في أيامنا الراهنة أصبح بدل الإيجار لا يصل إلى 60$، مما أدى إلى إختلال في التوازن العقدي بسبب تغير الظروف المعيشية التي باتت صعبة والناجمة عن انهيار الليرة
الشقّ النقدي: هل يحق للمالك أن يجبر المستأجر على الدفع بالدولار الأمريكي؟
تبعاً لأحكام المادة الأولى من قانون النقد والتسليف، فإن الليرة اللبنانية هي وحدة النقد والعملة المستخدمة رسمياً، في حين نصّت المادة 767 من قانون العقوبات اللبناني أنه “من أبى قبول النقود الوطنية بالقيمة المحددة لها يُعاقب بالغرامة من ألف ليرة إلى عشرة آلاف ليرة”. وباعتبار أن للعملة الوطنية قوة إبرائية شاملة وغير محدودة على الأراضي اللبنانية سنداً لأحكام المادتين 7 و 8 من قانون النقد والتسليف
وبالتالي، يمكن تسديد بدلات الإيجار بالليرة اللبنانية كونها تتمتع بقوة إبرائية شاملة، ولا يحق للمؤجر أو صاحب الملك أن يجبر المستأجر على الدفع بالدولار الأمريكي، أو أن يمتنع عن القبض بالعملة الوطنية بحيث تعتبر قوة إبرائية للدَين، إذ تنص المادة 319 من قانون العقوبات أن من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية يُجرّم ويعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من خمسماية ألف ليرة إلى مليوني ليرة. إلاّ أنه في حال تمنع صاحب الملك عن إستيفاء بدلات الإيجار بالليرة اللبنانية فإنه يتم عرض وإيداع بدلات الإيجار فعلياً بالعملة اللبنانية من قبل المستأجر لدى كاتب العدل وفقاً لأحكام المادة 43 من قانون الإيجارات 2017
المعضلة المثارة: وفق أي سعر صرف يتم الإيفاء؟
قانوناً، للعملة الوطنية قوة إبرائية شاملة للدَين، وتبرأ ذمة المدين أو المستأجر، إلاّ أن المسألة لا تكمن وفق أي عملة سيتم الدفع فحسب، بل وفق أي سعر صرف؟ الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً في الآونة الأخيرة، وفجّر نزاعاً بين أصحاب الملك والمستأجرين. طرحت عدة تساؤلات حول ما إذا كان هناك ما يُسمى ب “سعر الصرف الرسمي”، وما إذا كان يعود لمصرف لبنان تحديد سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي أم لا
انطلاقاً من نظام لبنان المعروف بإقتصاده الليبرالي الحرّ، فإنه لا وجود لما يُعرف بسعر الصرف الرسمي، إذ أنه تم تكريسه لمجرد التعامل، وعليه، يعود لأطراف العقد حق الإتفاق على تحديد الالتزام النقدي في العقد بعملة أجنبية. كما أن قانون النقد والتسليف نصّ في أحكامه على مهمة المصرف المركزي المتمثلة بالمحافظة على سلامة النقد اللبناني والاستقرار الإقتصادي وغيرها من مهامه العامة، إلاّ أنه لم يتناول أيّة أحكام تُعطي المصرف المركزي صلاحية وإختصاص لتحديد سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية، وبالتالي فإن تحديد سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي يُحدد سنداً لقاعدة العرض والطلب أو بموجب قانون صادر عن مجلس النوّاب، أي تحديده يشتمل على أُطر تشريعية وليس تنظيمية. وللإجابة على الإشكالية أساس موضوعنا، يقتضي البحث في طبيعة عقد الإيجار
تبعاً لنصّ المادة 221 م.ع فإن العقد يجب أن يفهم ويفسر وينفذ وفقاً لحسن النية والإنصاف والعرف. كما أنه يقوم وفق حرية وإرادة الفرقاء التعاقدية ومشيئتهم بحسب المادة 166 م.ع. فيما خصّ عقد الإيجار، فإن المادة 533 من قانون الموجبات والعقود عرّفته بأنه “عقد يلتزم به المرء أن يولي شخصاً، حق الإنتفاع بشيء ثابت أو منقول أو بحق ما لمدة معينة مقابل بدل يلتزم هذا الشخص أداءه إليه”. ودفع البدل المنصوص عليه في نصّ المادة هو ركن أساسي لا بل جوهري في العقود المتبادلة والعقود ذي العوض. ووفق مفهوم المادة 169 م.ع، فالعقد ذو العوض هو “الذي يوضع لمصلحة جميع المتعاقدين فينالون منه منافع تعدّ متعادلة على وجه محسوس”. وكما بيّنا أعلاه، إن البدل في عقد الإيجار يعدّ ركن أساسي من أركانه، فيجب أن يكون جديّاً وحقيقياً، وليس تافهاً أو زهيداً، والمقصود بجديّة البدل أي وجود توازن بين البدل والإنتفاع
فإن المعضلة المطروحة هنا تكمن في ذلك التوازن، فتدهور العملة الوطنية يؤثر على هذا التوازن، بحيث يعتري العقد إختلال في توازنه، وبالتالي التأثير على الأسس المعتمدة من قبل طرفي العقد عند إنشائه. ولا شكّ، أن الرضى في التعاقد ضروري بكل عقد بحسب المادة 176 ق.م.ع، ووجوب تعادل المنافع والحقوق المتبادلة (المادة 168 م.ع)، وعليه فإن أطراف العقد اتفقوا وأقاموا علاقتهم التعاقدية مستندين على أجواء وظروف كانت تلائمهم، وأنهم لولا تلك الظروف لما توجهت إرادتهم لإبرام عقد. في ضوء ما تقدم، فإنه عند تدهور قيمة العملة الوطنية التي تؤدي إلى إختلال التوازن العقدي، فإنه يجب إعادة التوازن لتلك العلاقة التعاقدية على وجه معقول، وإبقاء إلتزامات الفرقاء متعادلة مستندين إلى روح العدالة والمساواة وحسن النية، وهذا عبر مفاوضات تُجرى بين المالك والمستأجر لتعديل العقد، خاصة لناحية البدل، أو التوجه للقضاء لتحديد مصير العقد أو فسخه، فهذا ما نصّ عليه المشرّع الفرنسي في نصّ المادة 1195 من القانون المدني المعدّل سنة 2016
خلاصة
ختاماً، إزاء هذه الظروف الإقتصادية الصعبة التي عصفت بلبنان، والتي تتفاقم يوماً بعد يوم في ظلّ غياب السياسات الحكومية، والتي كان لها تأثيرها على الحقوق والإلتزامات الناشئة عن العقود، خصوصاً عقد الإيجار، كان لا بد من تناول بعض النصوص القانونية التي ترعى تلك المعضلة التي أفضت إلى نزاعاً بين أصحاب الملك والمستأجرين
المراجع
قانون الإيجارات 2017
قانون النقد والتسليف اللبناني
قانون الموجبات والعقود اللبناني
قانون العقوبات اللبناني 1943 وتعديلاته
القانون المدني الفرنسي المعدّل سنة 2016