برز مؤخراً في دوائر النقاشات السياسية العامة مصطلح الدولة العميقة إشارةً إلى جهة وقوى غير مرئية قد تقف وراء أحداث لها طابع سياسي وأمني معقد لا يمكن شرحها وفق المعطيات المطروحة في لحظة الحادثة. برز بالموازاة نقاش أكاديمي علمي يتمحور حول تعريف هذا المفهوم ضمن إطار علمي ودراسة مكوناتها وتركيبتها. من ناحيةٍ أخرى أثار ظهور هذا المفهوم ضمن الأدبيات السياسية سلسلة اشكاليات حاولت معالجة علاقة الدولة العميقة بمختلف الأنظمة السياسية وبالاخص الديمقراطية. عليه، إعتبر البعض أن الدولة العميقة هي وليدة الأنظمة الاتوقراطية وإمتداد لأجهزة حكمها، بينما إعتبر البعض أن ثغرات النظام الديمقراطي جعلته فريسة سهلة أمام مطامع الدولة العميقة. إنطلاقاً من هذه المقاربات، يعتبر البعض أن الدولة العميقة قد تعيق قيام نظام ديمقراطي متماسك، بينما يعتبر البعض الأخر هذه الدولة ضمانة أساسية لاستمرارية الديمقراطيات، وبالتالي تستبعد فرضية أن الدولة العميقة قد تؤثر على عملية قيام الديمقراطية المتماسكة
فإلى أي مدى قد تعيق الدولة العميقة قيام نظام ديمقراطي متماسك؟
في معالجتنا لهذه الاشكالية، نتبع في بحثنا المنهج الإستدلالي، متبعاً المنهج الوصفي التحليلي، حيث نصف الواقع السياسي، وننطلق منه لتحليل الظواهر التي تبين لنا دور الدولة العميقة. نقسم بحثنا إلى فصلين أساسيين، الفصل الأول نظري، ينقسم إلى بندين، في البند الأول نشرح مفهومي الديمقراطية و-“نظام الحكم الاكثري” بشكلٍ خاص، أما في البند الثاني، نعرف ماهية الدولة العميقة، نشأتها، ومكوناتها. في الفصل الثاني من البحث نقدم للقارئ الواقع السياسي ونشرح إنطلاقاً من هذا الواقع دور الدولة العميقة، ومدى ارتباطها بالديمقراطية. تجدر الإشارة هنا أن التباس مفهوم الدولة العميقة، وارتباطها بالكثير من الملفات السرية قيد إطار بحثنا وحدد حدوداً ضيقاً لدراستها
“النظام “بين الشرعية الشعبية والدولة العميقة
في هذا البند سنعرف مفهوم الديمقراطية مشيراً إلى أهم خصائص النظام الديمقراطي. كما ونشرح في الفقرة الثانية من هذا البند مفهوم “حكم الأكثرية” ومقارنتها مع كل من المفاهيم التالية: الاتوقراطية، الديمقراطية المنتقصة، والديمقراطية المتماسكة
الديمقراطية… حكم الشعب
لم يتوصل علم السياسة بعد إلى تعريف موحد لمفهوم الديمقراطية، ونلاحظ حتى اليوم تفاوت من حيث شرح هذا المفهوم. لغوياً تعود جذور كلمة “الديمقراطية” إلى اللغة الإغريقية وهي كلمة مركبة من كلمتين: “حكم الشعب”. من حيث التعريف، تتعدد التعاريف المتداولة، إلا أن التعريف الأكثر إنتشاراً هو تعريف الرئيس الأمريكي لنكولن. إذ يعرف لنكولن الديمقراطية بأنها “حكم الشعب من قبل الشعب ولأجل الشعب”. إذاً، نستلخص من هذا التعريف أن الديمقراطية نظام يكرّس حكم الشعب وهو نظام مبني على أساس تحقيق مصلحة الشعب وطموحاته. بالتالي تتركز الخاصية الجوهرية للديمقراطية على إعتبار الشعب مصدر السيادة يمارسها بنفسه أو بواسطة من ينوب عنه لتحقيق “الحرية والرفاه والمساواة”. بالرغم من الإنتشار الواسع لهذا التعريف إلا أنه لا يفسر إلى جزءًا من مضمون الديمقراطية التي أصبحت تتخذ إمتدادات واسعة تصل إلى علاقة الحاكم بالمحكوم، ووضع المواطن في الدولة محدداً أهم حقوقه والقيم الإنسانية الكبرى. في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى خصائص الديمقراطية وشرح مفهومها بشكلٍ أوسع، ونوجز هذه الخصائص بالتالي
أولاً، الديمقراطية مفهوم سياسي يقوم على إعتبار الشعب مصدر السيادة وصاحب السلطة الحقيقية يمارسها بالطريقة التي تناسبه وتحقق له الحرية، المساواة، الأمان والرفاهية
ثانياً، الديمقراطية تقدس “الفرد في المجتمع”. من الناحية الايديولوجية تقوم الديمقراطية على تقديس الفرد الإنسان بإعتباره ركن أساسي في تشكيلة المجتمع السياسي، بالتالي تبقى الدولة والسلطة في إطار النظام الديمقراطي وسيلة وأداة لخدمة الفرد والمجتمع وتحقيق العدالة الإجتماعية والحرية الفردية. إذاً بالمعنى الواسع تبقى الدولة والسلطة وسيلة تمثل مصالح الشعب
ثالثاً، الديمقراطية تضمن قيام دولة القانون، ونعني بدولة القانون “سيادة القانون على الجميع دون الاستنساب، ففي الأنظمة الديمقراطية “القانون يعلو ولا يعلى عليه” ويصدر القضاء احكامه بإسم الشعب
إضافةً إلى كل ما سبق، الديمقراطية تعترف بالحقوق والحريات العامة، فالديمقراطية أتت كطرح سياسي وفكري مناهض لمنطق إستبداد الملوك والحكام ووضع حد للسلطان المطلق الذي تمتعت به بعض فئات المجتمع التي قامت على إحتكار السلطة إنطلاقاً من مرتكزات “شرعية” مختلفة، ومع تطور مفهوم السلطة، والتطور التاريخي لمفهوم الشرعية، تركزت الديمقراطية على “الشرعية الشعبية” كمصدر للسلطات
من ناحيةٍ أخرى، يلخص دو فيرجيه، الديمقراطية بالمبادئ الجوهرية التالية: سيادة شعبية، إنتخابات، برلمانات، استقلالية القضاء، حريات عامة، تعددية حزبية
نظام الحكم الأكثري بين حكم الشعب والاتوقراطية
يميز الكاتب والعالم السياسي روبرت دال بين النظام الديمقراطي ونظام الحكم الأكثري (Polyarchy) والذي يعني اشراك أكثر من شخص (أو مكون سياسي) في عملية صناعة وإتخاذ القرارات واشراك أكثر من طرف سياسي أو شخصية سياسية في تكوين السلطة. يعتبر دال أن الديمقراطية نظام “مثالي يوتوبي” لا يمكن تطبيقه في الواقع السياسي. فبحسب دال الديمقراطية هي نظام “يستجب تماماً لمصالح جميع مواطنيه” مما يجعل منه أقرب للمثالية وبعيداً عن المنطق والواقع السياسي السائد. بالنسبة لدال الحد الأقصى الذي يمكن لأي دولة التوصل إليه هو ما سماه دال بنظام الحكم الأكثري الذي برأيه تعتمده معظم دول العالم كحل وسط بين الديمقراطية والاتوقراطية، فمن حيث مبدأ الشرعية الشعبية يعتمد نظام الحكم الأكثري وسائل ديمقراطية لتكوين السلطة، إلا أن، وبحسب دال لم تؤد السلطات المنتخبة وظيفتها إنطلاقاً من المبادئ الديمقراطية إذ ترتكز على تحقيق مصالح فئات ضيقة وشرائح محددة دون “الإستجابة تماماً لمصالح وحاجات جميع المواطنين”. إنطلاقاً مما تقدم به روبرت دال، توسع بعض الكتاب السياسيين بشرح نظام الحكم الأكثري بإعتبار أن هذا النظام “غير كافٍ” للتوصل إلى نظام ديمقراطي متماسك، وحتى راح البعض ليعتبره بأنه يتناقض مع النظام الديمقراطي من حيث الوظيفة والمرتكزات التي يقوم عليها نظام الحكم الأكثري. نشير هنا أن بعض الأدبيات السياسية تميز بين الديمقراطية “المنتقصة” أي نظام الحكم الأكثري، والديمقراطية المتماسكة، والتي تم شرح اطارها النظري في الفقرة الاولى من هذا البند. عملياً، كما سبق وشرحنا، يعتبر بعض الكتاب أن نظام الحكم الأكثري هو نظام يجمع بين الديمقراطية والاتوقراطية، بناءً عليه، وبمقاربةٍ نقدية يشرح بري جيلز في كتابه “ديمقراطية قليلة الكثافة” أن الفئات الفقيرة مثلاً غير قادرة وغير متمكنة بالمشاركة في الإجراءات السياسية ويتم اقصائهم من عملية تكوين السلطة وبالتالي لا تمثل مصالحهم في النقاشات السياسية ضمن المؤسسات الديمقراطية. من ناحيةٍ أخرى يعتقد وليم روبنسن ان “الديمقراطية المنتقصة” هي نظام تتحكم فيه فئة صغيرة من الناس إنابة عن عن “الرأسمال” ويبقى دور الناخب محصوراً فقط ضمن هامش إختيار فئة أو نخبة من الناس تدار وترشح من قبل “الرأسمال“. في السياق ذاته يقول مارك كورتس، المؤرخ والصحافي البريطاني، أن نظام الحكم الأكثري هو النمط الديمقراطي الذي تم ترويجه من قبل البريطانيين في مختلف دول العالم، إذ بالنسبة لكروتس الاجراءت الديمقراطية في هذه الدول هي ليست إلا وسيلة لترسيخ الحكم بيد أقلية، قد تعبر نظرياًعن إرادة الأكثرية، مضيفاً أن حتى هذه “الأكثرية” يتم تجييشها من قبل نخبة تتحكم بالمسار الإنتخابي والنتائج الإنتخابية. إذاً تأتي نظرية الديمقراطية المنتقصة أو نظام الحكم الأكثري كمقاربة نقدية للنظام الديمقراطي الذي بالرغم من أهميته ومثاليته يبقى، حسب دال غير مكتمل ويستحيل تطبيقه في الواقع السياسي وإن كان معتمداً كنظام للحكم في بعض الدول، إلا أن الواقع يختلف عن النظري
فما الذي يفصل بين الديمقراطية المنتقصة والديمقراطية المتماسكة؟ وهل من عوامل تخفيه الظواهر وتبقى أعمق من الانظار؟
الدولة العميقة، التعريف الأكاديمي، المسار التاريخي والواقع السياسي
سنعرف في الفقرة الأولى من هذا البند مفهوم “الدولة العميقة” نشأتها، ومدلولاتها في أدبيات علم السياسة. في الفقرة الثانية من هذا البند سنشرح تركيبة الدولة العميقة، تكوينها، وأهم اركانها
الدولة العميقة، النشأة، التاريخ والتعريف
لا ينتمي مصطلح الدولة العميقة المتداول في الأوساط السياسية في سياق الصراعات السياسية إلى الموسوعة السياسية الأكاديمية بقدر انتمائه إلى الممارسة السياسية التاريخية التي ارتبطت بتاريخ الأمة التركية، فدخل مفهوم الدولة العميقة إلى المعجم السياسي في الحياة السياسية التركية. إرتبط نشأة هذا المصطلح بالتاريخ التركي الحديث وبالتحديد مرحلة تفكك الرجل المريض؛ الدولة العثمانية. ارتبطت هذه التسمية (أو الصفة) بالجماعات السرية والتنظيمات الشبه عسكرية التي نجحت بتنظيم شبكة إجرامية وارهابية خارج إطار مؤسسات الدولة (على الأقل نظرياً). إذاً بشكلٍ عام إعتبرت الدولة العميقة إنعكاساً لسيطرة شبكة من الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الخفية على مفاصل الدولة التركية. وإذا كان لهذا المفهوم عمقاً تاريخياً يعود جذوره لبدايات القرن العشرين، إلا أنه لم يأخذ رواجاً جماهيرياً واسعاً إلا في بدايات القرن الحادي والعشرين وتحديداً مع إنطلاقة الثورات الملونة والربيع العربي ونظريات المؤامرة التي ترافقت مع إنتشار التحركات الشعبية تقريباً في كل دول المنظومة الإشتراكية السابقة والدول العربية. من حيث التعريف وكما تدل تسميتها، أن الدولة العميقة هي دولة غير ظاهرة للعيان على سطح الأحداث السياسية ولكن تلعب دوراً أساسياً في إخراج وإنتاج هذه الأحداث، وبما أنها تتصف بالغموض والسرية، يعد مفهوم الدولة العميقة من المفاهيم الأكثر إثارةً للجدل حيث لا يوجد إتفاق على تعريف محدد له ولا على محدداته وابعاده، إضافةً إلى ذلك ما يجعل من هذا المفهوم أكثر التباساً هو تشابكه مع عدد من المفاهيم المستخدمة في إطار النقاشات السياسية مثل مفاهيم “حكومة الظل”، الدولة الموازية، و-“الدولة داخل الدولة” وينبغي التنبيه إلى أنه ورغم تشابه هذه المفاهيم، من الناحية الشكلية إلا أنها ليست مترادفات. بالرغم من صعوبة إيجاد تعريف موحد ومتكامل، إلا أن يمكننا شرح مفهوم “الدولة العميقة” بأنها مصطلح يعبر عن تحالف عميق يجمع بين طياته بنيات الدولة المختلفة، من مركب إداري، سياسي، قضائي، إعلامي، والمؤسسات العسكرية والأجهزة الاستخباراتية، ومثقفين، ورجال مال وأعمال، ورجال دين وأصحاب نفوذ… تجمعهم جميعاً رابطة واحدة منطقها ومؤداها، الإبقاء على مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة، واستثناؤهم عن أية محاسبة أو مساءلة، وعدم تعرضهم لأية متابعة قضائية أن إهتز النظام القائم أو استجدت أحداث من شأنها خرق “الرابطة المصلحية”. تعمل الدولة العميقة على قاعدة “واحدٌ للجميع، والجميع للواحد” أي، في حال بروز أي تهديد قد يؤدي إلى فكفكة “الرابطة” أو من شأنه خرق منظومة الدولة العميقة تجتمع جميع طيات الدولة العميقة وتتكتل تفادياً لانهيار الهيكل “المصلحي” المتماسك والمترابط. وبناءً على هذه القاعدة يتضح لنا أن الدولة العميقة تتميز بالطبيعة الشبكية الأفقية وليس الهرمية. إذ تبدو الدولة العميقة على شاكلة بناء شبكي متراصٍ، يتكون من العناصر الرفيعة في النظام (مهما كانت صيغة النظام) تجمعها مصالح إقتصادية ومشاريع تجارية ومالية، وعلاقات إجتماعية وعائلية، وطقوس إحتفالية، وانتماءات طائفية وعلاقة مصاهرة وممالك إعلامية وما سواها
فما هي التركيبة الفعلية لهذه “الدولة العميقة” وما علاقتها مع “الدولة الظاهرة”؟
تركيبة الدولة العميقة، علاقة الدولة العميقة بأجهزة الدولة
نستدل من شرح مفهوم الدولة العميقة على أنها تركيبة معقدة، وأنها عبارة عن تحالف إجتماعي، سياسي وإقتصادي عميق ما بين مختلف الطبقات الإجتماعية، بيروقراطية الدولة، وأجهزة الحكم المحلي، وقد يمتد حدود هذا المركب المتشابك إلى مختلف قطاعات المجتمع المدني وقد تصل امتداداتها خارج الحدود الوطنية ليصبح لها نطاق إقليمي ودولي عابر للقارات. من ناحيةٍ أخرى، يقارب بعض الباحثين ظاهرة الدولة العميقة من منظار حقوقي إستناداً إلى “مبدأ الشرعية”، حيث يؤكد البعض على عدم رسمية “الدولة العميقة” وعدم شرعيتها على إعتبار أنها غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة، في حين يأتي الطرح المعاكس بإعتبار أن في بعض الأحيان قد تتواجد قيادات تنفيذية وأعضاء منتخبين في المجالس التشريعية، وهم في الأصل ينتمون إلى الجماعات والأذرع المشكلة للدولة العميقة ويسخرون مواقفهم الرسمية خدمةً لمصالح ذاتية على حساب المصلحة العامة. أما عن علاقة الدولة العميقة بالدولة (الظاهرة)، تختلف الطروحات التي تشرح علاقة الدولة العميقة مع الدولة، فيرى البعض أن الدولة العميقة هي الدولة بحد ذاتها بتراتبيتها المؤسساتية، وبتنظيمها العامودي والأفقي، وباجهزتها في القمع والإكراه وبأدواتها التجسسية والتضليلية وبأطرها الإعلامية والثقافية والدينية. بالمقابل يعتبر البعض أن الدولة العميقة هي على مكانة تفوق مكانة الدولة من حيث قدرتها وامكاناتها، أي نصبح أمام واقع تكون فيه الدولة العميقة “دولة فوق الدولة”، فتتعدى الدولة العميقة بأذرعها السياسية، العسكرية، الأمنية، الإقتصادية، التشريعية، القضائية، الإعلامية والمؤسسات الدينية امكانات الدولة، لا بل أكثر، تصبح الدولة ككل بمؤسساتها واجهزتها جزئاً من تركيبة الدولة العميقة المعقدة والمتشابكة، واداةً لتنفيذ اجندات الدولة العميقة. ولأن الدولة العميقة تركيبة معقدة، غامضة ومتداخلة، فلا تترك مجالاً أو قطاع إلا وتغزوه وتكتسحه إن دعت الحاجة، وبالتالي اختراقها أمر متعذر إلى درجة كبيرة لا بل في بعض الأحيان مستحيلة إذ أن تفجيرها من الداخل أمر محفوف بالمجازفة والمخاطر وقد تؤدي أي محاولات تفكيك أو محاولة لتفجيرها من الداخل لخضاتٍ أمنية، إقتصادية وسياسية، إذ تعتمد الدولة العميقة على العديد من الوسائل والأدوات دفاعاً عن شبكات مصالحها وللوقاية من أي خرق محتمل. من بين هذه الأدوات و-“عدة العمل”، هي إستخدام العنف في سياق “حالات استثنائية” خارج إطار القانون مبرراً هذه العمليات بعناوين مختلفة تضليلية يتم تسويقها من خلال الماكينات الإعلامية التي تخدم مصالح الدولة العميقة وتعتبر من أهم الأذرع والمرتكزات التي تقوم عليها هذه الدولة. في هذا السياق، يرى اونيل أن الدولة العميقة تمارس السلطة غير الشرعية من خلال ممارسات الإكراه والعنف أو التهديد بها، مضيفاً إلى أن الدولة العميقة لا توجد فقط بسبب قدرتها على ممارسة العنف بل أنها تمتلك أيضاً قدرة الإغراء، عبر شبكة خدمات زبائنية ومحسوبية متنوعة. أخيراً من المهم لفت النظر إلى الدور الأساسي الذي تلعبه البيروقراطية باعتبارها أداة أساسية تستخدمها الدولة العميقة وذلك عبر التمسك بمفاصل الإدارة العامة، فالبيروقراطيون في هذه الحالة يمثلون قوة منظمة تقود المقاومة السلبية لاي من البرامج أو السياسات التي تضعها القيادات السياسية والتي قد تهدد مصالح الدولة العميقة
فهل فعلاً الدولة العميقة هي دولة فوق الدولة؟ وهل تمدد أذرعها لضرب النظام القائم في حال دعت مصالحها ذلك؟
الدولة العميقة والديمقراطية، من الأقوى؟
في هذا البند سنتطرق إلى بعض الشهادات التي برزت على لسان أهم موظفي الادارات العامة والتي يمكن الإستدلال منها أن الديمقراطيات تخدم قيام الدولة العميقة وتمكنها إلى حد كبير. بالتالي تستولي الدولة العميقة على المؤسسات الديمقراطية للحصول على خدمات سياسية وإقتصادية على حساب “مصلحة الشعب”. سنتطرق بشكلٍ خاص إلى بعض التطورات والأحداث السياسية التي ظهرت ضمن اللعبة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية وظهرت في أعماق ديمقراطيتها أذرع الدولة العميقة
امبراطوريات الدولة العميقة
يقول الرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت في حديثٍ مسرب له مع العقيد ادوارد مانديل هاوس “الحقيقة، الحقيقة هي كما تعلم، أن المال هو الذي يتحكم بالحكومة …” مبيناً دور الذراع المالي للدولة العميقة وامكاناتها بالتحكم بالقرار الحكومي وقدرتها على توجيه السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. فشهادة الرئيس الأمريكي السابق ليست شهادة عابرة، بل هي نتاج تجربة عملية شهد خلالها الرئيس التجاذبات في أعماق الحياة السياسية إلى حيث تصل جذور الدولة العميقة. في سياق هذا النقاش بين الرجلين، يعبر الرئيس روزفلت أيضاً عن قلقه الشديد عن ما آلت إليه الأمور، وتراجع “الديمقراطية الأمريكية” لصالح “فئة مصرفية” تتحكم بالخزينة الأمريكية ولا تهمل أي فرصة لإبتزاز الأجهزة الحكومية. في الواقع لم يتغير الواقع اليوم عن ما وصفه الرئيس الأمريكي عام 1933، لا بل اثبتت العمليات الارهابية عام 2001 وأزمة 2008 الإقتصادية أن الدولة العميقة الأمريكية استمرت بتعميق جذور الدولة وتوسيع إطار نشاطاتها، حيث أصبحت المؤسسات الديمقراطية ليست إلا وسيلة من مجمل الوسائل والأدوات التي تعمل لصالحها. تعقيباً على ما ادلى به الرئيس روزفلت، وفي السياق نفسه، نقتبس جزء من ادلاءات المدعي العام روبرت كيلان التالي: “أقول بكل أسف، أن أي شركة نفطية كبيرة هي أكبر وأقوى من الحكومة الأمريكية… يؤسفني الإعتراف بهذا الواقع ولكن تراخي حكومتنا لصالح هذه الشركات أوصل بنا إلى ما نحن عليه اليوم…”. إن هذا الإدلاء طرح تساؤلات عدة عن مدى واقعيتها، فأتى الرد بقلم ستيف كول الذي كتب في كتابه “الإمبراطورية الخاصة: ايكسون موبيل والقوة الأمريكية” بوصفٍ مفصل مفاده أن اللافت في بعض الدول، تفوق امكانات شركة ايكسون السياسية والأمنية على امكانات السفارة الأمريكية بكل اجهزتها، إذ يشرح ستيف كول أن شركة ايكسون لديها من الموارد السياسية والأمنية والإقتصادية إلى حدٍ لا يوصف، يجعل منها إمبراطورية إقتصادية تفرض نفسها على الدول والكيانات، فكيف للدولة الأمريكية باجهزتها الحكومية أن تسيطر على مطامع هذه الإمبراطورية؟
أخيراً، لا بد من التطرق إلى شهادات الصحافيين دانا بريت وويليام أركن، إذ يصفان، الدولة الأمريكية بأنها دولة تقوم على حكومتين، الأولى وهي المعترف بها شعبياً وتبرز للانظار، أما الثانية فهي حكومة سرية موازية للأولى تتحكم بها وهي متجذرة في أعماقها منذ عقود، تظهر بعض اجزائها للعالم الخارجي، ولكن كتركيبة متكاملة هي “ليست ظاهرة إلا لله”. ففي ظل غياب اي دور بارز للحكومات والمؤسسات الديمقراطية فهل يحكم القضاء بالعدل “باسم الشعب”؟
حصانة الأمر الواقع
لا تقوم الديمقراطية المتماسكة، إلا بقيام قضاء مستقل، يحكم بالعدل ويصدر احكامه بإسم الشعب. ففي ظل غياب أي دور فاعل للمؤسسات الديمقراطية للحد من تمدد الدولة العميقة يبقى القضاء ضمن الصفوف الأولى لمواجهة هذا التمدد والتوسع الدائم. إلا ما قد يصلح نظرياً، لا يتطابق دائماً مع الواقع وبالأخص عندما تكون المسألة مرتبطة بصراع الديمقراطية والدولة العميقة، فإن كان تطبيق الديمقراطية كما هي نظرياً لما كنا أمام دولة عميقة تتحكم بمفاصل النظام ضارباً بعرض الحائط “الإرادة الشعبية” و”حكم الشعب”. ولفهم دور ومدى إمكانية “القضاء” بالقيام بدور فاعل بوجه الدولة العميقة لا بد من شرح “الدولة العميقة” إنطلاقاً من متغير القوة، فتجاذب القوى وصراع الأقوياء قد تهمش دور القضاء، لا بل قد تلغيه، لاغياً معه أي مرجع قانوني أو دستوري كان من المفترض أن ينظم العقد الاجتماعي والحياة الديمقراطية
بعد مسيرة نيابية استمرت 28 عاماً، وبعد خروجه من الكونغرس الأمريكي نشر النائب الجمهوري السابق مايك لوفرجان مقالاً تحت عنوان “تشريح الدولة العميقة” يشرح فيه مختلف مكونات الدولة العميقة ويصفها بأنها الحكومة التي من المستحيل تحديدها وهي حكومة تنشط في الظلام، تصل إمتداداتها إلى خارج واشنطن. ويضيف أن هذه الحكومة لا يدرس عنها في صفوف التربية المدنية ولا في مجال القانون الدستوري إلا أنها هي حكومة أمر واقع فرضت نفسها على الحكومة المرئية، فما يتبين لنا من سياسيين منتخبين واجراءت ديمقراطية ليست إلا قمة جبل الجليد، والذي لا يمثل شيئاً من الحقيقة والواقع السياسي. فنظرياً ما نراه هو فئة من السياسيين المنتخبين بيدهم القرار، ولكن الواقع أعمق بكثير، فيبقى القرار بيد فئات تحرك دوائر القرار على أهواءها. يصف لوفرجان في مقاله أيضاً، الدور المالي والسياسي المترابط للدولة العميقة، وتحديداً ال-“وول ستريت”، الذراع المالي للدولة العميقة وحسب توصيف لوفرجان المحرك الأساسي للحركة الديمقراطية الأمريكية. فال-“وول ستريت” الذي يعتبر المركز المالي للولايات المتحدة الأمريكية، والذي يستقطب أهم الشركات المالية والمصرفية يتحكم إلى حدٍ كبير بإقتصاد ومالية الحكومة الأمريكية، وبالتالي تفرض نفسها ضمن اللعبة السياسية من خلال مجموعة من السياسيين تمولهم عمالقة ال-“وول ستريت” وهم لا يلعبون سوى دور الدمى المتحركة تتحكم بهم فئة من النافذين من وراء الستار. يضيف لوفرجان، أن بالفعل ال-“وول ستريت” قادر على إشباع الجميع وتوظيفهم سياسياً. لا ينحصر هذا الدور فقط في ضمن الإطار السياسي فحسب، بل يضف لوفرجان أن حتى معظم “عمالقة المال” يتمتعون بحصانة الأمر الواقع والتي قد تحميهم من أية محاكمة قضائية، و يعبر عن هذا الواقع تعبيراً دقيقاً ما ادلى به المدعي العام اريك هولدر أمام اللجنة القضائية في المجلس الشيوخ الأمريكي، إذ ادلى بشهادته حول مدى صعوبة، لا بل إستحالة فرض القانون على عمالقة ال-“وول ستريت” مصرحاً ما معناه أنه يتطلب جرأة كبيرة لتوقيف أو الإدعاء ضد رؤوس الإمبراطورية المالية الذين يملكون قدرات هائلة للتلاعب بالأسواق المحلية وما ينتج عنها من تداعيات وانعكاسات سلبية ليس فقط على الإقتصاد المحلي لا بل قد تصل إلى تهديد الأمن الدولي. هذا الإدلاء يشرح بحد ذاته منطق “الدولة العميقة هي الدولة فوق الدولة”، لا بل أكثر، يمكننا الإستنتاج أن هذه التركيبة المعقدة هي أكبر وأكثر تعقيداً من أية دولة، أوسع من أي حدود وأعلى من أي نظام ومؤسسة دستورية
فبعد شرحنا لواقع الديمقراطية الأمريكية في ظل تمدد أذرع الدولة العميقة، كيف يمكننا شرح العلاقة بين الدولة العميقة والديمقراطية المتماسكة؟
الدولة العميقة والديمقراطية المتماسكة
بعد شرحنا المعمق والمفصل للواقع السياسي ودور الدولة العميقة ضمن اللعبة الديمقراطية، سنشرح في الفقرة الأولى من هذا البند العلاقة العكسية بين الدولة العميقة والديمقراطية كنظام. ونخصص الفقرة الثانية لنقاش عملي يتمحور حول كيفية خرق وتفكيك الدولة العميقة واقامة ديمقراطية متماسكة تختلف عن ما هو واقع الديمقراطيات اليوم. نشير هنا أن في سياق هذا البند، يأتي مصطلح الديمقراطية المتماسكة للدلالة على النظام الديمقراطي المبني على مرتكزات متينة تصون حكم الشعب وتحمي مصالحه على حساب المصالح الفئوية
العلاقة العكسية
اثبتت الدراسات التي تبحث بمواضيع “التحول نحو الديمقراطية”، أن عملياً ما يميز بين النظام الديمقراطي وباقي الأنظمة هو مدى إلتزام المؤسسات الديمقراطية بوظائفها خدمةً للشعب وإلى أي مدى يكرس النظام موارده البشرية والمادية لتحقيق حرية الفرد تحقيقاً لجوهر “المذهب الديمقراطي“. من ناحيةٍ أخرى، بامكاننا الإستنتاج مما سبق أن الدولة العميقة وعبر العقود استولت على المؤسسات الديمقراطية عبر أذرعها المتمددة في أعماق النظام الديمقراطي، بالتالي يمكننا طرح تساؤلات مرتبطة بطبيعة العلاقة بين الدولة العميقة والديمقراطية المتماسكة، فهل فعلاً من مصلحة الدولة العميقة أن تساهم أو على الأقل أن لا تعرقل قيام نظام ديمقراطي متماسك؟ الإجابات التي سنقدمها في سياق هذه الفقرة ستصلنا إلى إستنتاج طبيعة العلاقة بين الدولة العميقة والديمقراطية. أولاً من الواضح أن تمدد الدولة العميقة وتوسعها لم يكن قد وصل إلى مداه ونطاقه الحالي إن لم تكن المؤسسات الديمقراطية متراخية ومكشوفة أمام غزوات الدولة العميقة التي خرقت ثغرات المؤسسات الديمقراطية ودفعت بها لإزاحتها عن وظيفتها الأساسية وحرفها عن مبدأ “الشرعية الشعبية”. بالتالي إضعاف الديمقراطية تلبي مصالح الدولة العميقة، فكلما ضعفت الديمقراطية كنظام متكامل، كلما فقدت حصانتها في وجه أذرع الدولة العميقة التي تنمو بوتيرة أسرع من أن يلمح. بالتالي صحيح أن الدولة العميقة تستفيد من مؤسسات الديمقراطية المتراخية والمنتقصة وقد تكتسب شرعية شعبية من خلال الاجراءت الديمقراطية ولكنها تنمو وتتطور على حساب منطق حكم الشعب، فليس من شأن الدولة العميقة سوى مصالحها، فقيام نظام ديمقراطي متماسك يقدس مبدأ حكم الشعب ويكرس مؤسساته تطبيقاً للمبادئ الديمقراطية يقف سداً منيعاً أمام تمدد الدولة العميقة ويعيق عملها، ويهدد الشبكات المصلحية للدولة العميقة. إذاً، من مصلحة الدولة العميقة خلق المعوقات أمام كل من يسعى لتمكين المؤسسات الديمقراطية وسد ثغراتها للحد من التمدد السرطاني للدولة العميقة. بإختصار لا بد من القول أن طبيعة العلاقة بين الدولة العميقة والديمقراطية هي علاقة عكسية، فالأول لا يقوم إلى على حساب الثاني والعكس صحيح
فكيف ننتقل من ديمقراطية متراخية منتقصة أسيرة الدولة العميقة إلى دولة ديمقراطية متماسكة خالية من الثغرات؟
إنهيار الدولة العميقة والتحول نحو الديمقراطية المتماسكة، كيف؟
تطرح هذه الفقرة إقتراحاً نظرياً للإنتقال من هيمنة الدولة العميقة إلى الديمقراطية المتماسكة حيث سيادة الشعب. يبنى الإقتراح على فرضيات مفادها أن الإنتقال من هيمنة الدولة العميقة إلى نظام ديمقراطي متماسك لا يتحقق إلا في حال إنهيار الدولة العميقة وتفككها، إعادة إستمالة النخب، وتوفر مرتكزات دولية (سنشرحها فيما بعد). في كتاب “مشكلة التحول الديمقراطي وتماسك النظام”، يناقش الكاتبان لينز واستيفان موضوع التحول نحو ديمقراطية متماسكة. إذ يشيران إلى 5 أطر ومجالات من المفترض خرقها وإعادة هيكلتها لتحقيق مسيرة التحول، فبالنسبة للينز واستيفان لا تقوم الديمقراطية المتماسكة إلا في حال بروز تطور في كل من المجالات التالية: المجتمع المدني، المجتمع السياسي، سيادة القانون، مؤسسات الدولة، والمجتمع الإقتصادي. فأولاً لا بد من إعادة النظر بهيكلية المجالات المشار إليها وثم التحول بإتجاه نظام جديد (نسبياً) أكثر تماسكاً. فبالنسبة للينز واستيفان، وفي ظل سيطرة الدولة العميقة تبقى هذه المجالات خاضعة للدولة العميقة، فيتم السيطرة على المجتمع المدني من خلال تسييسه وتجييشه لصالح طروحات الدولة العميقة، وتبقى عمالقة الدولة العميقة فوق القانون محميين بحصانات الأمر الواقع، أما بالنسبة للمؤسسات والمجتمع السياسي، حسب لينز وستيفان، فهم “موظفون” يعملون لصالح الدولة العميقة. من ناحيةٍ أخرى، يطرح الكاتب الألماني ميركل، في مقالةٍ له تحت عنوان “تحول النظام” سلسلة من الإقتراحات، فبالنسبة لميركل التحول نحو نظام ديمقراطي متماسك يشترط: إعادة تكوين دستور متماسك مبني على عقد إجتماعي يكرس المبادئ الديمقراطية وتضمن تطبيقها، إعادة تكوين الهيئات التمثيلية، وإعادة هيكلة المنظومة القائمة. إذاً وبالرغم من صعوبة العمليات وتعدد الطروحات المقترحة للتحول من ديمقراطية مشتتة تتحكم بها أذرع الدولة العميقة وتتمسك بمؤسساتها وتستخدم موظفيها تلبيةً وخدمةً لمصالحها، إلا أن ما يمكننا تأكيده أن كل الطروحات تشترط إنهيار الدولة العميقة كشرط أساسي، ومن ثم إعادة هيكلة المنظومة الإجتماعية والإقتصادية للقيام بنظام ديمقراطي متماسك وهنا نعود ونؤكد أن طبيعة العلاقة بين قيام نظام ديمقراطي متماسك وإستمرارية الدولة العميقة هي علاقة عكسية، فمستقبل الدولة العميقة تصبح محددة في حال قام نظام ديمقراطي متماسك، والعكس صحيح
الخاتمة والاستنتاجات
ختاماً، نستنتج ان طبيعة العلاقة بين الدولة العميقة والنظام الديمقراطي هي علاقة عكسية، فلقيام احدحما مرتبط بانهيار وتفكك الثاني. اضافة الى ذلك، نستنتج ان الدولة العميقة، بتركيبتها المعقدة والمتشاكبة تخترق مختلف المجالات والقطاعات وتستولي على المؤسسات الديمقراطية خدمةً لمصالحها. من ناحية اخري تعيق هذه المنظومة عمل الاجهزة القضائية قاضياَ على منطق العدالة وسيادة القانون اذ تبقى السلطة القضائية اداة تصدر احكامها “بأسم المصالح الخاصة” وليس بحكم الشعب. كما تعيق الدولة العميقة بناء نظام ديمقراطي متماسك مبني على حكم الشعب، الحرية، والمساواة. عليه، وبناءاً على كل ما سبق، نستنتج ان الدولة العميقة تتحكم بفاصل المؤسسات الديمقراطية بهدف عرقلة قيام نظام ديمقراطي متماسك قد يطيح بها. فهل بامكاننا يوماً ما القيام بنظام ديقراطي متماسك خالٍ من الثغرات؟