استقلالية القضاء في لبنان مجرد شعار؟


           يعتبر مبدأ فصل السلطات أحد أهم مرتكزات النظام الديمقراطي الذي تكرس في مقدمة الدستور اللبناني فبعض الأنظمة تعتمد الفصل المرن بين السلطات، حيث يتم التوازن والتعاون بينها كما هو الحال في لبنان ، وبعضها الآخر يعتمد الفصل الجامد بينها ولكن، وفي كلتا الحالتين تتمتع السلطات الثلاث باستقلالية تكفل لها حسن سير عملها، وبكيان لا يخرق من أي سلطة أو إدارة أو فرد أو جماعة إلا بوجود نص دستوري ينص بوضوح على تعاونها في مجال محدد

إستقلال القضاء يعني تحرر القضاء من أي ضغط أو تدخل من جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية وعدم وجود أي تأثير مادي أو معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر وبأية وسيلة في عمل السلطة القضائية المرتبط بتحقيق العدالة, كما يعني أيضا رفض القضاة إخضاع أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص على استقلاليتهم ونزاهتهم

 ولكن هذا الإستقلال لا يصل إلى حد الانفصال المطلق بين السلطات، فهو لا يعني أن السلطة القضائية تصدر قوانينها وتطبقها وتنفذها، فهنا يبرز التعاون بين السلطات حيث تقوم السلطة التشريعية بتشريع وإصدار قوانين، وتقوم السلطة التنفيذية بتنفيذ هذه التشريعات في نطاق عملها، وتقوم السلطة القضائية بدورها من ناحية مراقبة دستورية القوانين، عبر المجلس الدستوري ، ومن ناحية السهر على تطبيقها و على عدم خرقها من أي فرد أو مؤسسة

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق، ما مدى مرونة الفصل بين السلطات في لبنان؟ وما واقع السلطة القضائية فيه؟ 

أهمية السلطة القضائية

عندما وضع مونتسكيو مبدأ فصل السلطات ومبدأ وجود ثلاث سلطات في الدولة ، كانت حجته أنه لا يحد السلطة إلا السلطة وأنه لا وجود للحرية إلا بفصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية, فربطه هذا، للحرية، أهم ما يملكه الانسان، بإستقلال القضاء، هو تشديد وتأكيد على أهمية هذه السلطة كما و أنه حملها عبئاً ومسؤوليةً وأعطاها دوراً أساسياً في حماية  هذه الحرية  المكرسة في معظم دساتير العالم

وفي حين أن السلطة التشريعية تعبر عن سيادة الشعب ، فالسلطة القضائية هي التي تحمي هذه السيادة و تبسطها في الدولة الديمقراطية ، وتضع لها حداً عند الضرورة وبالرغم من أهمية هذه السلطة، إلا أنها عانت في لبنان من تدخلات سياسية واجتماعية ومن خلل في التشكيل القضائي وتأليف المحاكم، ما أدى إلى إعاقة عملها

الخلل في النظام القضائي اللبناني

بادئ ذي بدءٍ، لا بد من التطرق أولاً إلى هيكل القضاء اللبناني، وهو مجلس القضاء الأعلى، الذي بتعريفه هو هيئة قضائية مستقلة، مهمتها السهر على حسن سير القضاء وعلى ضمان استقلاليته . يتألف هذا المجلس من 10 أعضاء، يعين الوزراء 8 منهم بشكل مباشر أو غير مباشر

 وهنا نجد أنفسنا أمام أول تناقض : فكيف لهيئة أن تكون مستقلة عن سلطة ما و أعضاؤها معينين من السلطة نفسها ؟ هذا التعيين يجيز بالدرجة الأولى تدخل من قبل السلطة التنفيذية، وبالدرجة الثانية تدخّل من قبل شخصيات سياسية نافذة ممثلة في الحكومة، يتجلى أحياناً في طرح أسماء قضاة في التشكيلات القضائية بغض النظر عن كفاءتهم، أو عبر الضغط على قضاة في معرض دعوى لإصدار حكم يصب في مصالحهم

بالإضافة إلى ذلك، صحيحٌ أن التشكيلات القضائية تصدر عن المجلس الأعلى للقضاء، إلا أنها لا تصبح نافذة إلا بعد موافقة وزير العدل عليها وهذا تدخل جديد و واضح للسلطة التنفذية في عمل السلطة القضائية، إذ إن هذا المجلس حتى في التشكيلات والتعيينات القضائية خاضع لقرار الوزير الذي باستطاعته عرقلة التشكيلات إن لم تتوافق مع مصالحه ، إلا إذا صوت 7 من أصل 10 أعضاء على التشكيلات فتصبح نافذة في هذه الحالة ، ما يصعب حصوله بإعتبار أن 8 من القضاة معينين أصلاً من قبل الوزير عينه

كما كتب المحامي بيار حداد : أخطر ما في هذا الأمر نجاح السلطة السياسية في وضع مجلس القضاء الأعلى في مواجهة القضاة الأحرار المستقلين الشرفاء الطامحين إلى تحقيق استقلالية فعلية للقضاء

ناهيك عن الخلل في مجلس القضاء الأعلى ، فلا بد من الإشارة إلى المجلس الدستوري الذي تم انشاؤه بموجب اتفاقية الوفاق الوطني في الطائف عام 1993 بغية ضمان إستقلال القضاء، فهو هيئة دستورية مستقلة ذات صفة قضائية مهمتها مراقبة دستورية القوانين والبت في الطعون الناشئة عن الإنتخابات. ونصادف في تأليف المجلس الدستوري المشكلة عينها التي نصادفها في تشكيل مجلس القضاء الأعلى، ولا سيما من حيث تفاوت وتداخل السلطات في بعضها حيث أن هذه الهيئة تتألف من 10 أعضاء – مناصفةً بين الطوائف – تعين السلطة التشريعية النصف منهم وتعين السلطة التنفيذية النصف الآخر لنعتبر أن حجة قيام الحكومة بتعيين النصف من أعضائه هي أنها تتمثل بوزير العدل ، لكن ما عمل السلطة التشريعية هنا؟ فهذا إنتهاك صريح لصلاحيات هذه الهيئة التي يقوم اعضاؤها بالنظر بدستورية القوانين التي أصدرتها السلطة التشريعية

زد على ذلك، الوضع الإستثنائي للمحكمة الجزائية الخاصة، “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء” الذي يتألف من 15 عضواً، 8 منهم من أعلى القضاة العدليين رتبةً و 7 منهم من النواب ينتخبهم مجلس النواب. وأول تساؤل بسيط يطرح هنا هو أنه كيف لشخص ، لم يحصل على إجازة في الحقوق ولم يفز في مباراة المعهد القضائي ، أن يتولى منصب قاضٍ وأن يشارك في محاكمات وأن يصدر قرارت بإسم الشعب؟ وهذا التدخل للسلطة التشريعية بالسلطة القضائية له أثر سلبي ومباشر على سير المحاكمات و حتى على الادعاءت في الدرجة الأولى، فصحيحٌ أن هذا المجلس يختص بمحاكمة الرؤساء والوزراء عن الجرائم المتصلة مباشرةً في ممارسة مهامهم، كخرق رئيس الجمهورية للدستور، أو في حال الخيانة العظمى ، إلا أن المادة 70 من الدستور تنص على أنه لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء والرؤساء بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس (ما يساوي 86 عضواً), وهذا أمر يصعب حصوله في لبنان نظراً لتعدد الكتل النيابية و تحالفها و غياب عقلية المحاسبة لمن أخل في واجباته بغض النظر عن طائفته أو الحزب الذي ينتمي إليه ، فال65 نائباً الذين انتخبوا الرئيس لن يقوموا بإتهامه وبالتالي لن يتمكن قرار الإتهام الحصول على 86 صوتاً. والمؤاخذة هنا، هي اناطة مهمة الإتهام بسلطة مهمتها التشريع، وإشراكها في محاكمة المتهم

من الصعب التحدث عن العيب في تأليف المحاكم والخلل المادي الذي تعاني منه النصوص التي تنظم القضاء اللبناني المصبوغ بالطابع الطائفي على حساب الكفاءة والنزاهة دون التطرق إلى مسألة الطائفية بشكل عام التي أصبحت المعيار الأساسي لإختيار الموظفين من جميع الفئات، والتي تشكل سبب من الأسباب التي  تحول دون محاكمة بعض الزعماء “زعماء الطائفة” الذين يبدون مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة و يخرقون القوانين و يخالفونها ، فتعتبر لحظة اتهامهم لحظة إعلان الحرب على الطائفة و قرار ملاحقتهم  قراراً للمس بالطائفة الكريمة مباشرة

بعض الحلول لإصلاح القضاء

بالرغم من ذاك الواقع ، يبقى بصيص أمل لإصلاح القضاء فجاء في كلمة سابقة لرئيسة نادي القضاة “أماني سلامة” عن حلول لضمان إستقلال القضاء ونذكر منها

      أ- إقرار قانون استقلالية القضاء

ب- حصر تشكيل مجلس القضاء الأعلى بالقضاة فقط يُنتخبون من جميع القضاة العدليين لفترة زمنية محددة

ج-حصر صدور التشكيلة القضائية بمجلس القضاء الأعلى من دون أي دور لوزير العدل مع تحديد معايير موضوعية لهذه المناقلات مبنية على العلم والكفاءة والنزاهة والأقدمية فقط من دون أي قيد طائفي

و قد ذكرت صحيفة اللواء في هذا الاطار أن حماية القضاء يجب ان ترد في نصوص الدستور على أن يحفظ الدستور ثلاث ضمانات أساسية لاستقلال القضاء و هي

أ- أن يكون التعيين بالمباراة بعيداً عن تدخل السياسة وتحت إشراف مجلس القضاء الأعلى وحده

 ب- أن ينص الدستور كما دساتير العالم الديموقراطي على أن القاضي غير قابل للنقل إلا برضاه

ج- أن تضمن آلية دستورية للقاضي للترقي تكون بمنأى عن تدخل السياسة وتكون باشراف مجلس القضاء الاعلى

على ان يتولى مجلس القضاء الأعلى السهر على حسن سير العدالة وتأمين حماية استقلال القضاة و مشكلاً في نص دستوري كما هو وضع الدستور الفرنسي ومؤلفاً من أعضاء

أ- يكون ربعهم من قضاة محكمة التمييز ينتخبون من كل القضاة اللبنانيين

 ب- ربعهم من قضاة مجلس شورى الدولة ينتخبهم قضاة مجلس شورى الدولة

ج- وربعهم من غير القضاة ومن شخصيات ثقافية و وطنية تمثل كفاءات وتيارات فكرية وثقافية هامة في المجتمع المدني اللبناني ينتخب نصفهم القضاة ونصفهم الآخر النواب

د- الربع الاخير من القضاة السابقين المتقاعدين ينتخبهم النواب المنتخبون من الشعب وتكون للسلطة الإجرائية عدد من بينهم

ونؤكد على ضرورة إجراء تعديل دستوري يضمن استقلالية القضاء بدلاً من إصدار تشريعات تنص على ذلك بهدف التشديد على أهمية هذه السلطة ومساواتها بالسلطات الأخرى، فالمادة ال-20 من الدستور جاءت شكلية وناقصة إلى حدٍ ما إذ أنها   تنص على أن: “السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام يضعه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة اما الشروط الضمانة القضائية وحدودها فيعينها القانون والقضاة مستقلون في اجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والاحكام من قبل كل المحاكم وتنفذ باسم الشعب اللبناني .. فلم تنص بشكل واضح على شروط تأمين استقلالية القضاء و كيفية تحقيق استقلال القاضي و لا على عدم جواز نقله من منصبه الا برضاه

    أخيراً فإن استقلالية القضاء هي البرهان على وجود دولة قانون، يعم فيها مبدأ سمو الدستور وفصل السلطات بالدرجة الأولى، وحيث يكون الجميع تحت سقف القانون وتحت طائلة الملاحقة القضائية من دون أية قيود وإستثناءات ونختم بما أورده مركز الجزيرة للدراسة في مقالة عن استقلالية القضاء والإنتقال نحو الديمقراطية: وإذا كانت الممارسة الديموقراطية تسمح بخلق قضاء مناسب لبناء قضاء قوي، فإن وجود قضاء مستقل يشكل من جانبه دعامة متينة للممارسة الديموقراطية وترسيخ المساواة أمام القانون

المراجع

“Lebanon Files” المحامي بيار حداد “القضاء في لبنان بين الواقع و المرتجى 2019

صحيفة اللواء 2019

موقع الجزيرة 2010

Leave a Comment